جريدة أرض بلادي- هيئة التحرير-
عقارب الساعة اتفقت على العاشرة، يقترب اللقاء رويدا رويدا، منذ أن أخبرته بموعد رحلتها، انقطع بينهما الاتصال، لثلاثة أيام وليلة يجرب كل الوسائل، ابتداء بالهاتف، مرورا بالرسائل الصوتية والنصية، بل مر بالمواقع التي تزورها موقعا موقعا، تتلاعب الهواجس بطمأنينته، يحاول أن يعتبر الأمر عاديا لولا هذا الفضول الزائد والحرص الشديد، أمام المرآة يتفقد وجهه، يسوي زغبة طائشة غادرت موقعها من شعره، يعيد تمرير الشفرة على ذقنه، يمرر أطراف أصابعه على وجهه، يفتح عينيه لمغالبة آثار السهر، يأخذ قنينة العطر، يتأكد أنها القنينة المطلوبة، يوجه فتحتها إلى صدره، يقربها من عنقه يمينا ويسارا، يرمش عينيه متوقفا عن الرش، يعيد النظر في هيأته، كل شيء جاهز.
وصل إلى الشقة ألقى عليها نظرة ماسحة وتيقن أنها مرتبة بما يكفي لاستقبالها، طقطقة حذائه الأسود اللامع تتوالى في أرجاء المطبخ، لاحظ قطرة ماء على وجه الرخامة السوداء، مسحها بمنديل ورقي وضمه إلى جيبه لتكون الحاوية فارغة، أطل على المؤونة فكانت كما تشتهيها، لم ينس زيارة الحمام وغرفة النوم، المكان وضاء لماع كأصيلة المتأهبة لاستضافة هذا الحدث الكبير.
مجرد دردشة جمعت بينهما، فأبدت رغبة في زيارة مدينته في موسمها الفني، حددت اليوم والساعة بدقة، الحادية عشر صباحا في مقهى المسافرين قبالة المحطة، تطول الدردشة وتقتحم عالميهما بتفاصيل مملة أحيانا، تحذوه رغبة المتلهف لمعرفة هذه اللؤلؤة التي جاد بها الزمن وأتت بها الصدف، لم يعلنا بعد احتفالية تعزف تقاسيمها بروية في أعماقه، كم مرة كاد ينطق بما تنسجه أعماقه، تربكه رصانتها وقدرتها على الانتقال من موضوع لآخر دون أن تترك له فرصة للإعلان عن نفسه أكثر، افترشا سجاد الفنون ولم يتركا علما من أعلامها إلا اعتكفا في مرسمه، وتزينا بخلطاته، على وجهيهما نثرت الفرشاة بعضا من ألوانها، هو أيضا عزف لها ألحانا بهية تطرب النفوس وتنتشلها من مواطن الجدة إلى ساحات الفكاهة.
وقفت سيارته قبالة المقهى، ترجل بخطوات فيها من العزم ما يخفي بعض رهبة، رأته من بعيد فلوحت بكلتا يديها، زاد من منسوب خطواته، وحلقه يزدرد بقايا ريقه،
على بعد خطوات منها فاجأه رجل كثيف الشعر، منسدل اللحية، مدفون في ملابس مهلهلة يخرج من بوابة المقهى، وضع الغريب يده على كتفها، أحس عرقا باردا يرش جمرات لهفته.
قالت: هذا خطيبي، فنان أصيل يحب زيارة أصيلا.