بقلم : عبد اللطيف بوهلال
سرّب صديقها السابق مقطع فيديو جنسي لهما، وكشف فيه عن وجهها، فاغتالها معنوياً، وأباحها للإدانة الجماعية: إدانتها هي وليس هو! هذا أولاً. ثم أوقعها تحت طائلة القانون، في الفصل 490 منه، الذي يحكم بالحبس على مرتكب العلاقة الجنسية خارج الزواج، حتى لو كانت رضائية وتجري بين راشدين لم تظهر أمام وسائل الإعلام، ولم تعبّر عن مشاعرها، ولا عن انطباعاتها. اختفت وانسحبت بصمت. كان المقطع الجنسي الذي كشف عن وجهها كفيلاً باغتيالها معنوياً، بعد أن سربه صديقها السابق… وهو بعد ذلك انتشر كالنار في الهشيم في جل منصات التواصل الاجتماعي كما في المواقع الإباحية.
كانت هي محط إدانة جماعية، وليس صديقها السابق الذي ظهر معها في الفيديو. معظم المتابعين نصّبوا أنفسهم قضاة حكم جاهز، يرددون: “إنها مجرمة، وجزاؤها العقاب الإلهي أولاً، والسجن ثانياً”.
أمينة، السيدة التي لُقّبت على وسائل التواصل الاجتماعي بـ”مولات ال…ر” ، صدر عليها حكم من المحكمة وحُبست لمدة شهر، أما صديقها السابق والمقيم حالياً خارج المغرب،في ليبيا بالضبط فصدرت بحقه مذكرة توقيف.
تطرح هذه القضية عدة مسائل، منها شيوع ممارسة الوصاية الأخلاقوية المجتمعية والجماعية على الأفراد والتلصص على حياتهم الخاصة، الذي وصل هنا إلى حد العنف والتنمّر باسم الدين والأخلاق. ومنها الفارق في الموقف المجتمعي ذاك، ما بين الحكم (بالغ القسوة) على المرأة أو (المتساهل) على الرجل، ومنها أن هناك جانباً مغيباً في القصة يتعلق بنيّة التشهير بامرأة، الذي يفترض أن يكون مداناً بقوة كسلوك منحط، والذي ظهر حين تم تسريب هذا الفيديو إلى المجال العام.. كما يطرح مسألة المتابعات الأمنية والقضائية التي تتم بموجب الفصل 490 من القانون الجنائي، الذي ينص على أن كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما الزوجية تعتبر بمثابة “جريمة فساد”. وهو النص التشريعي الذي سجنت بسببه أمينة وسواها.
كانت قضية أمينة دافعاً لارتفاع أصوات مدنية مدافعة عن الحريات الفردية طالبت بإلغاء الفصل 490، أبرزها حملة ائتلاف “خارجة عن القانون” في الفضاء الإلكتروني، التي أثارت سجالاً محموماً بين فريق يقبلها، وآخر يرفضها وفق قناعاته، أو يتحفّظ عليها، ويعتبرها مجرد حملة عابرة ومناسباتية ليس إلا.
الائتلاف يعتبر بأن حملته ليست وليدة هذا الحدث بل بدأت قبل سنوات، ويفيد بأن”هذه المرأة كانت ضحية مزدوجة للاستغلال الجنسي، حيث صورت دون علمها، وبسبب الحكم الذي صدر بحقها”.
أما الفريق المناهض لهذه الحملة، فيراها تكريس لـ”ثقافة دخيلة” على قيم المغاربة يطبعها، “الانحلال الأخلاقي”، كما أنه يعتبر فعل المطالبة بإلغاء هذا القانون “ليس ذا أولوية”. وأنه لم يحن بعد دور المطالبة بهذه الحريات. هذا الكلام لا يقنع المدافعين عن حق المغاربة في ممارسة حياتهم الشخصية والحميمة بعيداً عن رقابة السلطة الأمنية وحراسة المجتمع، ويعتبرون أن إلغاء الفصل 490 ليس ترفاً، ولا ضرباً من الانفلات الأخلاقي. بل إن المسألة مرتبطة بفكرة أن الحقوق لا تتجزأ ولا يمكن المفاضلة بينها، ولا حاجة لوضع تراتبية لها.
ويحضر استنتاج جاهز لدى قطاع كبير من المغاربة، يعتبر أن إلغاء هذا التشريع سيساهم في تنامي مشاكل وظواهر اجتماعية غير مرغوب بها، من قبيل “اختلاط الأنساب” و”الأطفال المتخلى عنهم”، و”الأمهات العازبات”… ويعتبرون أن الإبقاء على هذا الفصل يمثل رادعاً “أخلاقياً” لكل “انفلات”. بينما يرى معارضو هذا التشريع بأنه تسبب في استفحال هذه الظواهر القائمة فعلاً في الواقع. ويعتبرون بأن الطريق الأسلم للتخفيف من هذه الإفرازات الاجتماعية، يلزمه تكريس ثقافة تربوية للجنس والجنسانية، وأخرى حقوقية تتصالح مع الجسد، ولا تدينه، عبر إلغاء الفصول المجرّمة للحريات الفردية، وتقنينها بشكل يضمن ممارستها على نحو حر ومسؤول. أما أسباب الخطر المتمثل بما يعرف بـ”اختلاط الأنساب”، فلم تعد حاضرةً في زمننا المعاصر قياساً بالقرون الماضية، إذ حلَّ العلم وتقنياته المتطورة هذه النقطة من خلال إثبات هوية أب الطفل عن طريق الحمض النووي، واعتماد موانع الحمل ليصير الجنس معطىً إنسانياً خاصاً، مرتبطاً بالحالة الفردية الاستمتاعية أكثر من كونه مجرد وسيلة للإنجاب والتكاثر.
أما دعاة الفقه الإصلاحي، فيرون بأن الفصل 490 “أكثر تشدداً من الدين”. فالنص الديني يشترط بوضوح وجوب شهادة أربعة شهود عاينوا الممارسة الجنسية بشكل كامل ودقيق بين رجل وامرأة. وهذا المعطى “تعجيزي”، يجعل من التشريع الديني أكثر تساهلاً واحتراماً لخصوصية الفرد قياساً بالقانون المدني. ويرى باحثون في الشأن الديني بأن الشروط التي فرضها الإسلام لإثبات الزنا كان الهدف منها “عدم اقتحام بيوت الناس” والتجسس عليها. فالتاريخ الإسلامي لم يدوّن أي واقعةِ زنا بأربعة شهود طيلة خمسة عشر قرناً، وهذا يدل – بحسبهم – على أن المنطلق الفقهي يذهب إلى حماية الفضاءات الخاصة.
في المحصلة، يظل سجال إلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي، وسواه من الفصول المجرّمة للحريات الفردية مستمراً وممتداً دون أن يُحسم. وبشكل عام، تُناقَش هذه الحريات أحياناً بنوع من المزايدات الأخلاقوية تارةً، وتارةً أخرى كاستعراض أيديولوجي وسياسوي على “السوشل ميديا”، من دون اقتراح مشروع مجتمعي حقيقي ومؤثر على الأرض، أو حتى من دون التحول إلى قوة ضاغطة تنهي زمن شيطنة الحميمية الجسدية، وتزيل فرض وصاية الدولة على مواطنيها لهذه الجهة. وأيضاً – وحتى لا نتجاهل هذا الجانب الذي تكررت بخصوصه الوقائع – بغاية القطع مع توظيف السلطات لهذا الفصل كوسيلة لتصفية الحسابات مع معارضين أو نشطاء أو مؤثرين، وضربهم معنوياً.