انتفاضة لخليف ابراهيم

جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-


لم يعد يتحمل جلبة الحياة. أصابه القرف من ضجيج الناس وشطحاتهم التي لا معنى لها. قرر أن يعبر عما يختلج في صدره.
ذات فصل من فصول الحياة حين اجتمع نفر من الناس، قام مستنفرا وقد علت وجهه سيماء قلق. وقف بأعلى هامته ينادى فيهم بصوت جهوري تعلوه نبرة مخضبة بغير قليل من الجرأة لم يعهدوها فيه : يا قوم اعلموا أنني من اليوم سأصم أدناي لكيلا أسمع أصواتكم المدجنة. سأغمض عيناي لكيلا أرى صورا من حياتكم الضحلة. سأطبق شفتاي على ثغري لكيلا أنبس بما يعتمل في ذهني وأطلق كلاما غير محسوب العواقب. سأوثر السكوت على أن أنخرط في مجادلاتكم العقيمة.
حاول أن يستطرد في الكلام لكنه تريت بعض الشئ في محاولة منه لجس نبض مخاطبيه. ولما لمس فيهم بعض القبول أو ربما أحس أنه أخدوا على حين غرة بجسارته تلك، اتخد وضعية المتمكن من نفسه وكأنه يخاطبهم من على منصة خطابية. ثم تابع قوله: أخبركم اني سأنسحب من غوغائكم. سأنعزل عن دياركم وأهجرها. سأنطوي على نفسي لأنصت فقط لما يعتمل بدواخلي. أخبركم أن ضوضائكم لم تعد تعنيني. كلامكم لم يعد يغريني، أصبح لا يزيد عن لقلقة لسان، عن خطاب أجوف، عن ترهات، عن كلمات زائفة.
في حمأة حماسته التي زادته ثقة في النفس قال لهم: عذرا لا أمرا. سأنسحب منكم. سأسحب اسمي من سجلاتكم. سأنفرد بوحدتي. سأنحو منحى المتصوف التقي الذي اعتزل الناس والحياة والملذات. سأنزع بذاتي الى ذاتي. سأخرج من دائرتكم نحو دائرتي. سأعتزلكم لأني لا أستحقكم. سأغوص في عالمي، في ردهات أحلامي التي أجلتها، في ثنايا أيامي الخوالي التي قضيت ردحا منها في البحث عن ارضائكم، في تضاريس عمر كرست جزءا منه في تفاصيلكم التي لم تجديني نفعا. سأعيد قراءة حياتي الماضية. سأعيد استقرائها. سأرتبها.
وبدون أي يغير من لهجته واصل خطابه وأخبرهم انهم أصبحوا لا يرعوون. يعيبون على الناس ما يستبيحونه سرا وعلانية ولا يتورعون. لا يحترمون اختياراتهم. يستكثرون عليهم أقل الضروريات وينغمسون هم في ترف الحياة. يزدرونهم. يتجاهرون بفضاضتهم وفضاعاتهم. بل يعتقدون أحيانا أنفسهم كمن يحقق بطولات. وأن من يمسك منهم بزمام الأمور لا يعير للاشخاص الآخرين أدنى اعتبار، وأنهم ليسوا جزءا من المعادلة، ربما كانوا فقط أرقاما تستعمل عنذ الحاجة في مخططاتهم، وفي الغالب الأعم دون استشارتهم.
أخبرهم أنه كلما أغمض عينيه يرى عالما آخر غير ذاك الذي يحيونه. وكلما أصم أدنيه سمع صوته يتردد بداخله كسمفونية ماتعة. وكلما صمت صمتت ارتداداته حين يسْتَفَزَّ. أخبرهم أنه لهذه الأسباب لم يعد عالمهم يعنيه وأصبح يكتفي بذاته.
ثم أردف يقول: لكي أعيش بين ظهرانيكم مطمئنا على نفسي كنت أتظاهر بالغباء ولا أفهم شيئا وكنتم تدعون الدهاء وتفهمون في كل شئ. كنت أقرأ في عيونكم الغدر وكنتم تعتقدون أنني أتلفع برداء الجبن. لكنكم ظللتم واهمون وزغتم عن الطريق ففقدتم بوصلتها.
ثم أضاف: أخبركم أني سأستعير قول نزار قباني وأقول لكم الآن، الآن وليس غدا… لن أنساق بعد اليوم وراءكم كخرفان بانورج. سأقولها بملء في: كفى فلا مرحى بكم، ولا بعنهجيتكم ولا بتكابركم الذي تحسبونه سموا. كفى من بلاذتكم التي أضحت تغلف عقولكم وتدفع بكم نحو مسارات غير محمودة العواقب. كفى من تلوثكم الذي أضحى يجثم على بيئتكم ويخنق أنفاسكم ويقوض حياتهم. افسحتم المجال لكل من أراد أن يستغل مواردها ويعبث بها بدون رقيب وأن يعيت فيها فسادا بدون تأنيب ضمير.
استرسل في خطابه وقال لهم: لا مرحى بشجعكم الذي أصبحتم منغمسين فيه حتى أخمص القدمين، أف لكم. لم تكونوا لينو الجانب ولا طيبو الخلق. كنتم أناس فقط، لا يأتمن جانبكم. تستغلون الناس أيما استغلال في مواضيع شتى في أمور شتى. تتوشحون برداء الوقار وتتظاهرون بالنبل وتبيثون نوايا لكم فيها مآرب، وتواربون. لكن كل ذلك لن ينطلي على أحد. لن أمضي معكم عمرا آخر في أواخر عمري. سأرفع يدي وسأشير بسبابتي لتوجيه تهم لكم. سأرفع عليكم قضية رأي. وسأختصمكم الى ذي سلطة وسأرفع لذيه شكاوايا بأن يوجه لكم صكوك اتهاماتكم الذي تحاولون التملص منها رغم كل القرائن.
مهما يكن من أمر فلم أعد واحد منكم وعذرا لا أمرا أمحوني من ذاكرتكم، لأني سأخرج من فوري وبصمت من عالمكم البئيس وسأسلك طريقا غير طريقكم. سأرفع عنكم يدي. سأهجركم الى غير رجعة.