بوزروك

جريدة أرض بلادي_ الدار البيضاء_
الدكتور عبد العزيز حنون – طبيب صحة وقائية – إعلامي_
كان نمط عيش اهل القبيلة متوسط الحال عموما. حتى أولائك المصنفين في عداد الأغنياء هم في حقيقة الأمر فقط من مستوري الحال “ما عندهومش ما خاصهومش” من الفلاحين والتجار الذين لهم وضع اجتماعي محترم من طرف من هم دونهم. أما الثروة الحقيقية فلم تسلك يوما إلى منطقة مهمشة في تخوم دكالة البيضاء. في الثقافة العروبية “ديال زمان” كان “الميسورون”، دائما بين قوسين، ممن ذكرت، بفضلون لحم الخروف على غيره من اللحميات بما في ذلك لحم البقر، كما كانت الاسماك مختصرة في السردين وكابايلا “لا يرضون” بها ولا تدخل بيوتهم كثيرا. السردين كان، و حتى في يومنا هذا ما زال محتقرا عن جهل رغم انه سيد الحوت بامتياز من حيث المكونات ، لا يرتاد سوقه إلا المعدمون.
قلت كان يجتمع على بعض بائعي السردين كل معدودي الدراهم. البائعون بالتقسيط كان لا يتجاوز عددهم الثلاثة في احسن الاحوال، وفي الغالب واحد قد يكفي حاجات الفيلاج. يسمونهم “الحواتا” رغم أن منهم من لا يعرف البحر ولم يركب امواجه يوما ما. كانوا يذهبون الى المدن والمرسات الشاطئية الصغيرة القريبة منا وخصوصا آسفي والوالدية ويأتون منها محملين بصناديق السردين في سباراتهم المهترئة. كانوا يضعون فوقها شيئا من الملح يعتقدون انها كافية لحفظه من التعفن. لم يكن وقتئد لا ثلج ولاهم يحزنون، حتى الشاحنات الكبيرة التي كانت تحمل السردين من آسفي إلى مصانع البيضاء هي بدورها كانت بدون ثلاجات. كانوا يراهنون على الليل والسرعة للوصول باكرا. كانت تمر علينا ليلا تزعج نومنا ، تختار هذا التوقيت المناسب لحمل السلعة في جو بارد في الطريق الرئيسية الشاقة وسط الفيلاج تاركة وراءها في “الشانطي” خط ماء متصل معتصر من الصناديق الخشبية المملوية عن آخرها تفوح منه رائحة السردين من بعيد وخصوصا في فصل الصيف. هؤلاء هم الحواتا ديال بالصح الذين كانوا يرفعون الحصار عن مدينة آسفي وتجارتها المعاشية، المغضوب عليها حسب الرواية الشعبية، ويربطوها بغيرها من المدن المغربية شمالا وجنوبا.
اما اصحاب السيارات المهترئة التابعة للفيلاج فكانوا يأتون وسط النهار في وقت ترتفع فيه حرارة الجو و تجف منه عيون السردين حتى يعلوها البياض ويذهب بريقها كما تظهر معها ايضا كل علامات عدم الصلاحية منها القشور وبطر البطون. السردين كان وما يزال صديق الفقراء والمساكين نظرا لثمنه الرخيص نسبيا. كان ثمنه بين الدرهمين والثلاثة. كانت نساء القرية تحضر وجباته عموما في شكلين فقط: إما فليه في الزيت مع بعض الخضر كالدنجال والفلفل الاخضر؛ او طحنه و جعله كويرات تطهى “مرقة” في الكاميلة مع ملك الخضر خيزو و بنت عمه البطاطس، كل ذلك يتبل “بالليقامة” التي تقمع رائحته مع شيء من “الربيع” والزيتون والحامض.
كات السردين وقتئد اكثر شعبية من بوزروك الذي كان يستحيي الناس، تقريبا كلهم، الوقوف عليه، لأنه كان مرنبطا في المخيال الشعبي بالفقر المدقع ويتم اقتناؤه خفية وعلى استحياء شديد. كان يفرح بقدومه عباد الله الاكثر فقرا خصوصا من لديه افراد عائلة بلا عدد، كما كان يتم تحضيره مرقا. ومن خصائصة انه مشبع وقامع خطير للجوع. رغم “الحكرة” التي كان عليها وقتئد بوزروك كان ذا جودة بيولوجية وغذائية و ايكولوجية عالية نظرا لغياب الملوثات. اليوم اصبح في الشواطئ القريبة من المدن جامعا لكل الأزبال مجلبة للتسممات الغذائية معروف الخطورة اذا كان ملوثا و أيضا معروف الأهمية الغذائية الصحية إذا كان سليما، وبالتالي عز طلبه و تبدلت أحواله . فبعدما كان مهمشا محتقرا رغم جودته العالية ومكانته الغذائية، أصبح الآن لزاما عليك اذا اردت ان تحصل على بوزروك صالح للأكل أن تضع طلبك بشكل مسبق عند بائع ما أصبح يسمى بفواكه البحر وتنتظر اليوم الموالي حتى تحصل عليه، و بثمن غال بطبيعة الحال. ما يصدق عليه يصدق على الروطال الذي كان مشتتا بين صخور الشواطئ مهملا..فسبحان مبدل الاحوال من فقر إلى غنى! وحده السردين “صدق راجل” بقي في “صباغتو” صديقا للفقراء مساهما شهما في ردم الفوارق الطبقية الغذائية للمغاربة.