جريدة أرض بلادي-هيئة التحرير-
تقع رواية “حب وبرتقال”للأديب المغربي “مصطفى لغتيري” في 94 صفحة من الحجم المتوسط، وتحتوي على اربعة فصول، وهي تنتمي إلى جنس “السيرة الروائية”، وقد صدرت طبعتها الثانية عن منشورات غاليري الأدب عام 2018.
في هذه الرواية يتحدث الكاتب، عن امه، التي تشكل الشخصية المحورية داخل المتن الحكائي، فيقول عنها في بداية الرواية :”لأمي رائحة البرتقال ونعومته….إلى يومنا هذا كلما تناولت حبة برتقال بين يدي ،وشرعت في تقشيرها تمثل في الذهن و القلب صورة أمي”ص5
تذكر رائحة البرتقال الكاتب بأمه، فهي كانت عاملة في أحد معامل البرتقال، وكانت دائما عند خروجها من المعمل لا تنسى أن تاخذ برتقالة كي تاخذها لصغيرها، وكان هو يستقبلها ببراءة الطفولة ويفرح بتلك البرتقالة.
يقول الكاتب:”حين تستقيم صورتها في ذهني ينبني في أعماقي بصيص من فرح….ذكرى سعيدة….وأحلام داعبت وجدانه في لحظات منفصلة من الزمن الجميل، ذلك الزمن البعيد القريب”.
ينسج الكاتب غي هذه السيرة سلسلة حياة بسيطة، لكنها مليئة بالتحديات، حياة يعيش أحداثها أم وإبن وعالم جميل فسيح بالحي والعطاء والتضحيات، فالكاتب كان متعلقا بأمه حد الجنون ،فقد اعتبرها رمز الحياة والخصوبة، وهي كذلك كانت متعلقة به، فنحن مهما اطنبنا في الحديث عن الأم فلن نوفيها حقها من الكلمات ،فهي ذلك الكائن الشفاف الرهيف الإحساس الرحيم، فالكاتب “مصطفى لغتيري”كانت الأم بالنسبة له مصدرا للأمان والحنان والثقة، خاصة في مرحلة الطفولة، وقد اشاد بعلاقته معها، وأكد على دورها ترسيخها للثقة في نفسه، منذ السنوات الأولى من عمره فنجده يقول :”أمي امرأة غير متعلمة ،لكنها ذكية ،كان ذكاؤها لايزال يبهرني…..كان يعجيها أن تردد على مسامعه سورة “سبح” كاملة هكذا كلنت تسميها ، لأنها تبدأ بهذه الكلمة ،فيما بعد عرفت أن لها إسما مختلفا….”ص13
“وقد وظفت هذا الذكاء في تعليمي،حين تطلب مني إحضار محفضتي ،تجلس بجانبي ،أشرع في مراجعة دروسي ،وحين أخطأ تنبهني للخطأ….”ص13.
تنبه الأم العظيمة صغيرها للخطأ رغم انها لا تجيد القراءة والكتابة.
كانت الأم بالنسبة للكاتب نورا يقوده لمعانقة العالم والحياة، تزرع فيه حب العلم والأخلاق الفاضلة، كما أنها لا تنسى أن تخبره بأنه أجمل طفل في العالم، فهي تدعمه نفسيا وتشجعه بهذه الكلمات الجميلة كي تقوي من ثقته بنفسه، لاسيما أن الكلمة الطيبة الجميلة لها سحر على نفسية الكبير قبل الصغير، وندرج هنا كلام الكاتب بهذا الخصوص كما جاء في سرده:”أنت أجمل طفل في العالم.إياك أن تنسى ذلك، أو تسمح لشخص أن يقنعك بغير ذلك”ص10.
لاشك أن علاقة الأم بأطفالها هي سر من أسرار الخالق عز وجل ،فتربيتها للأبنائها وحرصها على التوازن بين ماهو نفسي وبدني، يخلق بيئة صحية للطفل فينشأ شخصا سويا، يقدرذاته، ويعرف حقوقه وواجبته، ويعيش بزاد من القيم ليكون مواطنا صالحا، كما أنها علمته الدفاع عن حلمه، والصبر على المشاق والصعاب والعوز، دون ضجر او سخط.
في رواية”حب وبرتقال”نموذج للمرأة المغربيةو العربية المتحدية القوية الصابرة، فهي تلك المراة البسيطة، لكن رغم بساطتها فهي تملك الذكاء والفطنة، وقد نجدها تتشاركك في هذه الصفات مع باقي الامهات المغربية والعربيات، فهذه الأم كانت بالنسبة للكاتب ملهمته، ومصدر نور وهاج روحاني يبعث فيه شحنة جبارة من الصمود، حيث يعبر عن هذا بقوله: “افتش عن كلمات أمي ،حضنها الدافئ،ولليخيب مسعاي أبدل،ما إن يحدث ذلك حتى ينبعث في نفسي فرح غير متوقع……”ص11.
هناك تعاريف عديدة” للسيرةالذاتية”ساقتصر هنا على التعريف الذي جاء به “جيرار جنيت”،تحدث جنيت عن نوعين:السرد التطابقي (homodeigélique):حصور السارد كشخصية في القصة التي يحكيها ،فيرى أن النوع الأول يكون فيه السارد هوبطل الحكايته ،أما النوع الثاني،فيكون السارد هامشيا لا يلعب سوى دورا ثانويا كملاحظ أو كشاهد،وسمى”جنيت”النوع الاول بمصطلح:(الاوتوبيوغرافي).
نجد في هذه السيرة هيمنة ضمير المتكلم،الذي يحيل على أن الكاتب كائن داخل النص ،وهو الذي يباشر فعل اللفظ،ويستند الحكي على اللغة والخطاب ،والمتخيل،بحيث يصيغ الكاتب لب السرد من أعمق أحداث بسيطة حينا ومتشابكة حينا آخر،حيث الذاكرة تغوص في الماضي القريب والبعيد ،يعيد ترتيب واقع مضى،وذكريات راسخة في الكيان والزمان.
ختاما لايسعني إلا أن أقول:أن سفري مع هذه السيرة ،كان سفر ممتعا، وسررت جدا بهذا الاعتراف الجميل والاعتزاز بالأم، وإبراز دورها وتضحياتها الجبارة من أجل فلذات كبدها، كسائر الأمهات،لكن هذه الأم العظيمة اعتبرها من نوع خاص، التي تشربت بأسمى معاني الإنسانية، واصرت على زرعها في صغيها كبذرة تعهدتها منذ الصغر، ليترعرع على هذه القيم النبيلة ،لتنشئ هذا الأديب الموسوعي السامق، الذي بدوره لايبخل علينا بحنانه وتوجيهاته، ونشره لمختلف الدروس والمحاضرات في شتى العلوم الإنسانية، لنستفيد منها في حياتنا اليومية والعلمية، وهذا ما يجعلني انحني إجلالا وإكبارا،لهذا الأب والأخ والمعلم،المصباح الذي ينير دروبنا.