حلم يتحقق بقلم لخليف ابراهيم

جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-

بقلم لخليف ابراهيم-

هدوء يخيم على المكان. الأشجار تتلاعب بها هبات الهواء فتصدر حفيفا. هناك تحث شجرة السنديان تمدد كلب يغط في نوم خفيف. وبين حين وآخر يصدر نباحا لا يفهم له سبابا، يبدو وكأنه يذكر فقط بوجوده هناك وأنه طرف في المشهد. اللحظة لحظة قيض في وقت الظهيرة. الشمس بلغت أوجها في عنان السماء وظلال الأشياء تتساقط قصيرة على الأرض. اتخد له مكانا فوق مصطبة يظللها سقف ارتكز في جانبه الخلفي على حائط المنزل وعلى دعائم أمامية. تناول وجبة غداء دسمة وتوجه نحو أرجوحة شبكية تشغل مكانا تحث شجرة وارفة واستلقى عليها. كان الذباب الذي تكاثر في تلك الفترة يناوشه. لا يكاد يستغرق في النوم حتى تأتي واحدة من هن لتلسعه. وكلما حطت احداهن على وجنتيه مطط شفتيه في حركة بهلونية فتنزعج. تطير لتعود مرة أخرى في حركة دائبة. لا يدري أهي نفس الذبابة أم ذبابات أخرى تكاترت جراء تواجد روث البقر الذي لا يبتعد عنه الا قليلا.

كان يعيش نفس الموقف ونفس الايقاع ونفس الانزعاج. لكنه رغم ذلك لم يتأفف قط. آثر أن يعيش بقية حياته هناك في رحاب البادية بعيدا عن صخب المدينة وتلوثها، عن ازدحام المواصلات والناس، عن شغب الأطفال وضيق العيش. الحياة في المدينة تبدو له رتيبة. كان يحس فيها بالإختناق. كان يعتقد أن من يعيش فيها كمن يعيش في سجن كبير مطوق بأسلاك شائكة يفتقد فيه رحابة الفضاء ونقاء الهواء وطمأنينة النفس. فضل أن يرنو بنفسه الى فسحة الحياة حيث الحياة بكل تجلياتها والى صفو الهواء والى هدوء الطبيعة. كان حلمه ذات يوم أن يمضي ما تبقى من حياته في خلوة من هرج الناس ومرجهم. كان للبادية بالنسبة إليه طعم آخر. فكان له ما أراد. مزعة فسيحة تقع على ربوة تشرف على منحدر ناحية الجنوب، مما يمنحه منظرا جميلا يفتح له أفقا أكبر وبالتالي فرصة الاستفادة من أشعة الشمس طول النهار، به أشجار باسقة و قطوف دانية تؤتي أكلها لما يحين أجلها.

بين حين وآخر تلفح وجهه نسمات هواء باردة فتنعشه. تلحس بعض الشئ ألم قرص الذباب وتخففه. بين فينة وأخرى بعض بقرات هناك في الاسطبل تصدر صوت خوار ينفد الى دواخله فتصبح جزءا من الصور التي تتراءى له خلال غفوته.

استمرأ هذا الوضع ودأب عليه بل أصبح طقس لا يحيد عنه. انه لا يقيل لأن القيلولة لا تعني له شيئا. انما ينام قدر ما شاء. لانه ما عاد لديه شئ يستدعي التقيد بالوقت. اعتقد أنه كان يحتكم له فيما مضى، أما الآن وقد أحيل على التعاقد فان عليه، أي الوقت، أن يحتكم لرغباته هو بل أنه أصبح ملكا له.

لما قرر الاستقرار في البادية خطط لكل شئ. بناء مسكن عصري وتجهيزه بجميع الضروريات من ماء صالح للشرب وشبكة مياه الصرف الصحي والانخراط في الانترنيت وتجهيز مكتب برفوف مدججة بأمهات الكتب من جميع حدائق المعرفة. أمله في ذلك أن يضع لنفسه اطارا يحاكي ظروف عمل مريح يتفرغ من خلاله الى القراءة والكتابة واستنطاق تجربته الحياتية.

احلام كثيرة تناسلت في صغره. لكن البادية كانت أكبر حلمه. كان يراوده منذ الصغر. كبر وكبر معه الحلم. ظلت صورتها عالقة بدهنه منذ أن أخدته أمه معها وهو طفل ما زال يتعثر في خطواته. صور صوت الديكة حين يتنفس الصبح، ورائحة طهي الخبر في فرن تقليدي معد بالطين، ونباح كلاب فرحة بمقدم يوم جديد ونقنقة دجاج يرتع في عشب ندي في بحث حثيث على سويقات غضة. صور طبعت في ذهنه. لم تبرحه وأصبحت جزءا منه. فهو لا يكاد ينغمس في جزئيات الحياة حتى يجد نفسه يفكر في تفاصيل البادية والبون الشاسع بين ما تتميز به من هدوء وبين صخب المدينة.

فتح عينيه وهو ما زال مستلقيا على ظهره ينظر الى زرقة السماء تتخللها بعض السحب، يدفعها الهواء ناحية الشرق. استهواه ذلك المشهد الذي لم يكن ليبهره أو حتى ليثير انتباهه لما كان مستقرا في الحاضرة، نظرا لضيق الحيز المنحصر بين جدران البنايات ولكونه نادرا ما كانت تتاح له الفرصة للتملي به، زد على أنه كانت يقدم له صور مكررة دأب على رؤيتها حد القرف. صور اختلطت في ذهنه ولم يعد فيها ما يدهش روحه المرهفة.

سمع صوت خطو يقترب منه. أدار رأسه فوقع بصره على زوجته وهي تحمل طبق تين مختلفة ألوانها. وضعته فوق منضدة كانت تقع بجانبه ودعته لتناوله. قابلها بابتسامة تتخللها مسحة امتنان. أطال النظر اليها. تفرس ملامح وجهها كأنه يراها لأول مرة. بدت له لطيفة ذات مبسم حاني. لمس في وجهها طيبوبة لم يعهدها، أو هكذا خيل إليه. استغرب الأمر. لكنه تدارك. قال في نفسه ربما السنوات التي قضاها في المدينة لم تمنحه الفرصة ليسبر أغوار كينونتها ويستجلي كنهها. مرد ذلك، ربما لأنه انخرط في تفاصيل العيش ونسي الأهم أي تفاصيل حياته الزوجية.

عمد الى الطبق والتقط حبة وألقى بها في فمه. انتشى بلذتها. تناول ثانية وثالثة ولم يتوقف الا حين أحس بالشبع. في هذه اللحظة تذكر تحدير طبيبه الأخصائي في أمراض الغدد والسكري من مغبة الإفراط في أكل الفاكهة. انتابه شعور بالذنب. لكنه قدر أن الأجواء الصحية التي تتميز بها البادية قد تساعده على امتصاص الحراريات. للتخلص من ذلك الشعور قرر أن يقوم بحصة المشي كما أشار له الطبيب. انتفض جالسا، انتعل حذائه الرياضي، نهض من مكانه ثم توجه رأسا نحو مسرب قرب مزرعته دأب يسلكه ليقوم بحركة المشي لذات السبب ولأسباب أخرى جاء يبحث عنها في هجرته تلك نحو حلمه الطفولي.