حين يُصبِح الوطن عاقّاً

جريدة أرض بلادي_الدار البيضاء_

الكاتب و الروائي محمد الوادي_

وأنت تشاهد ما تشهد عليه الأمهات وهن يودعن فلذات أكبادهن بالكثير من الحسرة والخوف.. قد يصل الهارب من الوطن، عبر رحلة الموج والضباب، وقد لا يصل إلى ضفة كان من الممكن أن تكون وطناً محرَّراً قبل ولادة جيل الهرب الذي يئس من أمل الوطن، وملّ من ظلمه وتعسفه وقهره.

أن تقف أمٌّ، وهي تقبض على قلبها وكبدها، في مشهد لا يحدث حتى في الأفلام الغرائبية، فهذا معناه أنه لم يعد هناك وطن في الوطن، وأن هؤلاء الشبان وثائق إدانة للوطن العاق.. ووصمة عار على جبينه، وأدلة قطعية على ما اقترفه ويقترفه في حق أبنائه.

أن يقف أب معوز وقد عبث به الدهر والفقر وهو يرى ابنه/حلمه عازم على الرحيل خوفا من الموت جوعا ومرضا ومهانة.. مشهد بالغ القسوة ومؤلم جداًّ..

أن تحزم فتاة حقائب الروح، وتعطي بالظهر للجغرافيا والتاريخ وما كان من الممكن أن يكون استقراراً وزواجاً وإنجاباً، بعدما ودّعت الأهل، وسقت الأرض دمعاً دامياً، واستقبلت البحر بالقليل من حلم النجاة والوصول إلى المجهول، فهذا معناه أننا وصلنا إلى خط اليأس التام، وأن هذه الفتاة والعديد من قريناتها شهادة إدانة للوطن.
لنا بحران بآلاف الكيلومترات من الشواطئ والمياه الإقليمية حيث بواخر الصيد.. وحيث آلاف الأنواع من السمك والذي لا يَهرُب بل يُهرَّب من أعماق البحر إلى البلدان التي تعرف كيف تطعم مواطنيها وتصون كرامتهم. علمونا، في المدرسة، بنوع من الافتخار أن البلد غني بسواحله وثروته السمكية.. لكن اكتشفنا أن البحرين لا يصلحان إلا للغرق، أما خيراتهما فلفئة صغيرة لا يهمها الوطن، ولها جوازات سفر جوّاً، وفيلات تنتظرها هناك، وحسابات في البنوك الأجنبية.

علمونا، في المدرسة أيضاً، أن لنا في بطن الأرض من الفوسفاط والدهب ومعادن أخرى الكثير الكثير..

وعلمونا، في المدرسة أيضاً وأيضاً، أن لنا فوق الأرض تضاريس متنوعة وغطاء نباتي..
لنا ولنا ولنا… ولكنهم احتكروه لأنفسهم، وتركوا لشبابنا الغرق والانتحار واليأس ولأمهاتنا الحزن والفقد، ولآبائنا الندم.

مشهد الرحيل/الانتحار الجماعي لخيرة شبابنا وشاباتنا.. ومشهد الأمهات المُوَدِّعات مدمر ولا يُحتمَل.

وقّعَه الكاتب بحسرة شديدة