خبايا الذات الإنسانية في راوية رجال وكلاب للكاتب مصطفى لغتيري

جريدة ارض بلادي_فدوى الجراري

أهي لعنة الجد، أم هو انتقام لعذاب العمة جراء رميها في مستنقع المجانين والمجدوبين المعروف بضريح بوياعمر، أم أنها تخيلات واضطرابات نفسية ترسخت في اللاوعي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، أم أنه عقوبة التطفل على عوالم المسكونين بأوهام المس والجن والسحر والدجالين، أم أنه مزيج من كل هذا و ذاك، فاجتمع في عقل طفل صغير وعشش في دواخله الوهم والشك والوسواس وأصبح يكبر يوما بعد اليوم حتى غدا أسير هواجس، جعلته يعاني من اختلال نفسي وفكري، ضائعا وتائها بين الحدث الواقعي والمتخيل، دون أن يجد من يخرجه من بؤرته المعتمة.

أهو التفكك الأسري، أم الأوضاع الاقتصادية التي تأثرت بالمجريات السياسية ورحيل المستعمر ومخلفات ما بعد ذلك، أم هو نتيجة من خرج من داره قل مقداره بمعنى من خرج من قريته وبيئته مصيره الضياع والتشتت إلى حين، إما العودة إلى الأصل حيث جذور الأجداد أو فرض الذات والتأقلم مع المحيط الجديد رغما عن كل الظروف، أم هو خليط من كل هذا وذاك مادام الكل يصب في نهر واحد.

كل هاته التساؤلات كانت الإجابة عنها بشكل مبهم بين سطور رواية “رجال و كلاب”، وللقارئ حرية اختيار زاوية النظر لمجريات أحداثها، وبالتالي إسقاط الحل المناسب من منظوره الخاص، الحكاية تبتدئ بتاجر تم اختطافه أمام أنظار زبونه المسمى علال، الذي كلف نفسه عناء التفكير. هل الأولى أن يخبر أهله أم يخبر الشرطة أم يتجاهل الأمر؟ الحيرة قادته لمخفر الشرطة، الذي طرد منه لعدم كفاية المعلومات، فأصبح يرى صورة التاجر في كل شخص يصادفه، لدرجة أن الشك تسلل إلى النفس المتذبذبة. هل الحدث الذي رآه هو حقيقي أم هو مجرد وهم على غرار باقي تخيلاته، ومن هنا قرر البطل سرد الماضي لعله كفيل بإيجاد عقدة المشكل والمربط المفصلي بين الوهم والحقيقة، فكانت البداية من حكاية الجد الذي فقد كلبه الوفي، ففقد معه عقله وما تبقى من حياته حزنا وأسى عليه، الفاجعة التي جعلت الأسرة بأكملها تعاني من نظرة مجتمع متنمر قاس لا مشاعر تسكنه، فاستغل تعلق الجد بكلبه حتى مماته ميتة الكلاب، فأطلق على أبنائه لقب”بني كلبون” لقب مدمر للنفسية والهوية، إذ ألغى لقلب الأجداد التي توارثوه من سنين، ويستمر مداه حتى للأحفاد القادمين، ويبقى لقبهم موصوما بعار وفاء الجد لكلبه، لتنبثق عنها حكايات أخرى الهجرة إلى المدينة والهروب من وصمة اللقب المدمر، ومحاولة الانغماس في أحضان المدينة للنسيان، لكن المدينة لم تكن أرحم فالعيش في الضواحي الهامشية للمدينة خلف مجتمعا مجهول الانتماء، ليس هو ببدوي و لا هو بحضري، وإنما هو مرقع، لا ينتمي إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فكان الأب و عائلته جزءا من هذا المجتمع، بعدما وجد لنفسه بيتا قصديريا هامشيا يحميه، وعملا مجحفا في معمل الفاسي يسد رمقه، ظلت الأمور على هذا المنوال، الأهم أنهم نجحوا في أمرين التزاوج والتناسل ونسيان اللقب المشؤوم، إلى أن حل البطل ليكشف ويعري واقع أسرته وما تكبدته من معاناة من الحياة الكلبية، وفاة العمة بعدما تدهورت حالتها العقلية والنفسية زاد الطينة بلة وزادت الشروخ بين الزوجين والعائلة ككل، ليقرر الأب وأحد الإخوة العودة إلى الأصل فكيفما كان هو أرحم، في حين قرر البعض الآخر الهجرة إلى ما وراء البحار، بينما ظل بطلنا أسير هواجس وتخيلات واضطرابات تراود يقظته وتؤرق منامه دون أن يجد لها علاجا، فلجأ إلى الكتابة و مشاركة قرائه همومه و مشاكله لعل ذلك يخفف من حدتها عليه، ولعله يصل من خلال تفريغ أفكاره ووساوسه على الورق إلى الراحة المفقودة، ولعل مشكلته تكون حلا لقارئ ما، فالإبداع قبل أن يكون فنا فهو علاج من كل الاضطرابات، ويعد جزءا هاما في بناء وتكوين الذات الإنسانية بشكل واع ومتوازن.

هكذا هو كاتبنا المبدع مصطفى لغتيري، الذي دائما ما يغوص بنا من خلال أسلوبه الشيق والمختزل، ويجذبنا معه نحو مواضيعه وروايته المستمدة من المستنقع الاجتماعي الغارق في الهموم والمشاكل والمتاهات، ويكشف لنا عبر أبطاله الخبايا النفسية والفكرية للإنسان ومعاناته في تأثره بالبيئة التي يعيش فيها وتأثير المحيط عليه و فرض سلطويته وقهريته عليه، الفقر، البطالة، الجهل، الخرافة، التفكك الأسري، الهجرة…. كلها تيمات تتجسد إبداعيا في أعماله لعل القارئ والزمن كفلين بإيجال حلول لها، يسلط الضوء على الماضي كيف كان حتى لا ينسى من قبل الجيل الحالي، التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي حاضرا بقوة في أعماله، فهو أبدى إلى أن يكون حلقة الوصل بين الأجيال، بين الماضي والحاضر والمستقبل، على خلاف بطله الذي عزف عن الزواج والارتباط رغم أن الجنس الأنثوي سكن مخيلته مخافة أن ينجب خلفا يحمل لقب “بني كلبون” وتظل اللعنة الكلبية للجد متواصلة من جيل لجيل.