رسالة إلى أديب من التلميذة حكيمة إكمير؛    إلـى الكـاتب مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي-هيئة التحرير-

 

السلام عليكم ورحــمة الله تعالى وبركـاته، عسى أن تـجدك رسالتي بـخير وعـلى خير، أما بعد؛

لقد كتب الله أن تكون من بين الكتاب الـذين أراسلهم، أعرفك بنفسي أولا قبل أن يستغرق الـحديث بـي عن الأفكـار والكتب والكـلمات، تكتب إليك التلميذة حكيمة إݣمير، تلميذة بمستوى البكـالوريا، قاطنة بمدينتي تالوين، التي تبدو لـي رغم صغرها عـالـما كبيرا بما عشته وما رأيته فيها، أخط رسالتي وأنا آمُلُ أن يكون لـها جدوى وأن تضيف فائدة إلـى ما هو موجود بالفعل، وأرجو أن تكون وجبة خفيفة عـلى مائدتك الغنية.

 

أرى من خلال قراءتـي لروايتين من رواياتك، أن الـمواضيع التي تهتم بها متعلقة أساسا بالـمجتمع ومشاكـله وثقافته وأحوالـه.

ولـهذا يبدو لـي أنه من الأفضل أن أنـحو منحى الـحديث عنها لبناء رسالتي، قرأت روايتك رجال وكـلاب، فـي بداية الأمر، خيل لـي أنني نوعـا ما أقرأ لسارتر أو كـامو، إذ إن شخصية السارد أو البطل كـانت مـحايدة إلـى درجة عدم الاندماج فـي وجودها، تلقيت صدمة غير مرتقبة حين عرضت عـلي مشكـلة الأوهام، وبدا لي الأمر غريبا، إذ إن أسلوب الكتابة الـذي اعتمدته كـان فريدا لم أصادفه فـي كتاب من قبل، تشابه لـي حبي لعلم النفس مع حب الشخصية البطل لـه، هو بهدف فهم أوهامه، وأنا بهدف فهم نفسي والآخرين. الـمحير هو العودة بالـماضي، العودة إلـى الـجد، بعد نهاية الرواية شعرت أنني أنهيت ثلاث روايات مـختلفة، واحدة تمتد من الأول إلـى مقطع التعاقد عـلى ما يشبه جلسة علاج نفسي، فجأة فتحت باب القرية حيث الـجد الذي مسخ إن صح القول، أو ربما بدا لـي مـمسوخا إذ لم أنظر إلـى الأمور من وجهة نظره، ربما كـان نوعـا من الـخلاص لـه، ولكن كيف لـهذا الـجد أن يهيم بهذا الكـلب ولا يرأف بأولاده وزوجه ونفسه أيضا، إذ فـي الأخير هذا الكـلب كـان نوعـا ما الـمساعد فـي حراسة الأرض وغيرها من الأعمال، والـهدف هو رعـاية عائلته، أيعقل أن الكـلب استولـى عـلى قلب الـجد ولم يبق للغير سوى عذاب فراق الـجد ولقب “بني كـلبون”، وما ترتب عنه من تغييرات جدرية فـي حياة العائلة وأبنائها وكـل خَلَفِهَا، ربما أتعاطف وأقول: إن الـجد لسبب ما عـانى من الوحدة أو إحساس من هذا القبيل، فكـان الكـلب أنيسه، ولـهذا حزن عليه، ولكن التحول إلـى الكـلب ومـحاكـاته، أمر يبدو لـي أمرا غير معقول، يـجعلني أفكر في أسئلة كثيرة، منها مثلا: ما نوع العلاقة التي قد يبنيها الإنسان مع غيره، سواء أكان إنسانا أو حيوانا؟ وإلـى أي حد يـجب أن نقترب من الآخرين؟ ما الـحدود الفاصلة بين أنا والغير؟

ثم تتبادر إلـى ذهني إمكـانية أن يكون الكـلب ترميزا لشيء آخر قصدته من هذه الرواية، خاصة أنك أسميتها رجال وكـلاب، لـذلك أستغل الفرصة لأسألك: لـماذا عنونت روايتك بعنوان: رجال وكـلاب؟

تصور معي للحظة أن كـلبا ما فجأة، تدهورت صحته ومات (معدوم وجوده وسط العائلة)، يوما ما اختفى، الـجد أصيب بمرض غريب، أصبح يقلـد الكلب كأنه أصيب بالأعراض نفسها التي كـان الكـلب يعانـي منها، كأنه أصبح نسخة من كـلبه، إلـى هذا الـحد تظهر عبثية السيرورة التي سارت إليها الأحداث، ثم أكمل معي، العمة كـانت أكثر اهتماما، ساعدت فـي معالـجة الـجد تدريـجيا، ثم ها أنت ترمـي بالقارئ مـجددا فـي الدوامة نفسها، الـجد عـاد إلـى حالته، ثم مات ببساطة بسبب كـلب.

لا لن نبقى هنا، فُضحت قصة الـجد بين أهل القرية، وحــمل الأبناء لقب بني كـلبون، لقب حول حياتهم إلـى الـجحيم، خاصة والـد البطل، انتقلوا إلـى أحياء الصفيح، هنا رأيت تناقضا فـي شخصية الأب، تعال معي لأكشفه لك، هذا شخص يـخشى عـلى صيته، صورته، شرفه، وهاجر تاركـا أرضه وكـل ما يملك لكـي لا يسمع لقبا مشينا، أظنه شخصا صاحب كبرياء وشخصا يـحب نفسه ويقدرها، ويـختار لـها موضعا يليق بها، وها هو يـخضع لصاحب الـمصنع، ينفذ أوامره، يتزوج من يـختارها لـه، ألا تجد أن هذا مستحيلا؟ قد يطيع أوامره فـيما يتعلق بالعمل ولكن ليس في الزواج وأمور أخرى، ثم أين ذهبت هذه التبعية حين عـاد إلـى القرية، تاركـا زوجه وأبناءه، أصدقك قولا: أن رأسي آلـمني وأنا أحاول أن أربط بين هذه الأمور كـلها بشكـل منطقي، أعطيها تفسيرا ينسجم معي، بـحثت فيها عن نفسي، ولم أجد، لحظة لم أنه كـلامي؛ هذه شخصية الـجد والأب والعائلة عموما، نسينا البطل، شخصية غريبة جدا، كما قلت لك تشبه كثيرا شخصية الغريب وكذلك بطل رواية الغثيان لسارتر، وشخصية سيدي مـحمد بطل علبة العجائب لأحــمد الصفريوي، لا أدري لو التقيت شخصا هكذا غربا، لركضت شرقا، سأشعر كأنني أقابل التناقض شخصيا.

بغض النظر عن كـل الـمواضيع التي جاءت بها هذه الرواية، أكثر موضوع تداولته فيها هو موضوع الشعوذة، والتي كـانت واحدة من الأمور التي زرعت أواصر الـخوف فـي جوف البطل، هي نوعـا ما مظهر من مظاهر الـخوف من كـل شيء من الـمرض ومن الـموت ومن الآخر بل من العجز أيضا.

هل لي أن أسألك، لـماذا تـجد أفكـار غير طبيعية وغير منطقية كهذه أعشاشا لـها في صدور الناس؟ ونـحن القائلون بأن الإنسان كُرم بالعقل والوعي، وها هو يقدم عـلى تصرفات لا تمت للوعي بصلة.

كثيرا ما يلتصق اسم الشعوذة والسحر بالنساء، إذ تسمع تلك سحرت لزوجها، وهذه استفتحت زواجها، طبعا أجد هذا فـي الكتب والواقع، ولكن لا أقبل أن يكون حكرا عـلى النساء فحسب، بل بعض الفقهاء فـي الـمساجد الآن وفـي الـماضي، يقدمون عـلى كثير من أفعال الشعوذة هذه، ويقصدهم الرجال والنساء، فلماذا التصق هذا الفعل ببنات جنسي فقط؟ ألا توافقني الرأي؟

ثم لو أحببت أخبرني عن رأيك فـي دور الـمرأة فـي الـمجتمع، وما رأيك بـحركـات النسوية وتغير كثير من الأمور فـيما يـخص مهام الـجنسين؟

ننتقل إلى رواية: القديسة عـائشة، أو ما يعرف عندنا باسم: عيشة قنديشة، تـحدث لنا الأستاذ عنها، حين كنت بالصف الثانـي ابتدائي وقال: إن أحدا من معارفه رآها فـي الواقع، كما قص لـي الـجميع قصصا من هذا القبيل، ولا أظن أن زرع هذه القصص في نفوس الأطفال فعلا سليما.

الرواية بها حبكة رائعة كـالعادة؛ انتقال من لـحظات واقعية إلـى أخرى خيالية، ومن منازل اسمنتية وحقول الذرة ورمال البحر وعائشة الزوجة، إلـى عائشة القديسة، والطيور اللامبالية، والعالم الـمليء بالـمرايا.

لـماذا اخترت الـحديث عن هذه الأحدوثة بالضبط رغم أن الثقافة الـمغربية تزخر بمثل هذه الأمثلة؟

قلت في إحدى الصفحات: “العالم أجــمل مـما يظن الناس النائمون فـي أحضان الأوهام”، هل لـي أن أسألك أي أوهام هاته التي تـجعل العالم يبدو بشعا؟ أهي هذه الـمخاوف أم أشياء أخرى بالإضافة إليها؟

لقد كتبت كثيرا من الروايات والكتب، وأشعر بالفضول، لأعرف هل لك مصدر إلـهام معين تأتـي منه هذه الأفكـار؟ بطريقة أخرى: ما منبع أفكـارك؟

هل لك نوع من أنواع العادات من أجل الكتابة؟ وماذا تشكـل الكتابة بالنسبة للكـاتب مصطفى الغتيري؟

هل كان فعل القراءة سابقا للكتابة في مسيرتك؟ ثم ما أنواع القراءات التي تفضلها؟

ما رأيك فيما تراه الآن من عزوف عن القراءة والكتابة والإبداع بمختلف أنواعه، بين صفوف من يفترض بهم أن يكونوا أولـي العزم فـي هذا الـمجال؟

أردت حقا أن أسألك عن آرائك باعتبارك كـاتبا وروائيا مغربـيا عن كثرة من الأمور، ولكن الوقت لا يساعد، لا أريد أن أطيل عليك أكثر. أخيرا، أنا فـي بداية الطريق، وربما في نقطة البداية، بداية الـحياة، ولابد أن لك تـجارب لأنك أكبر وأعلم مني، وأمـي تقول لـي دائما “لـي فاتك بليلة فاتك بـحيلة” لذلك: أغدق عـلي من حكم قطفتها من بين أشواك الـحياة، ووجهني بنصائح تساعدنـي لإتمام الطريق فـي اعتدال.

فـي الـختام، شكرا جزيلا عـلى قبولك الـمشاركة فـي مشروع أستاذي “هيا نتراسل” أولا، وثانيا: شكرا عـلى قراءة رسالتي وإيلائها اهتماما، وأخيرا أنتظر إجابتك، وإلـى ذاك الـحين حفظك الله.