ساحة جامع الفنا: قصائد عشق لا تنتهي…فاطمة موسى وجى

جريدة أرض بلادي- هيئة التحرير-

 

ما إن تحط الرحال بمدينة مراكش، حتى تختطفك ساحة “جامع الفنا”، تلك الفاتنة بحسنها الصارخ، التي تتقن فن الإغواء واقتناص المعجبين والعشاق. تبتلع أنت الطعم، فتأخذك في أحضانها وتسكرك بعطرها، تذوب في خضم تفاصيلها، تظل تجذبك وتجذبك ثم تلغي فجأة قانون الجاذبية فتسبح أنت في الفضاء، لا أنت من أهل الأرض ولا أنت من أهل السماء.

قد تكون الساحة أخذت الكثير من تسميتها “الفنا”، لأن الزائر لها يضيع حتما في سراديبها ويفنى، يفقد كل اتصال بالعالم الخارجي، بل بنفسه أيضا، كمحكوم عليه بالسجن، صاغرا ينقاد نحوها في استسلام. وما إن تطأها الأقدام حتى تفتح الأبواب لعوالم أخرى، متنافرة رغم وحدتها، لكن رغم تباعدها تبقى جسدا واحدا لا سبيل إلى تفكيكه إلى أجزاء، هذه القطع التي سرقت من الواقع والأسطورة، نهلت من التاريخ، من ماض بعيد قريب، ففرشت الحاضر جنات من نخيل وقصور حيرت العقل وأسرت القلب.

ساحة “جامع الفنا” هي جواز سفر يتيح لك العبور إلى حيوات أخرى غير معهودة، هي ذاك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحلم واليقظة، فما إن يستقبلك الحكواتي برواياته الأسطورية الطاعنة في القدم، حتى يخطفك رقص الأفاعي على أنغام الناي الشجية، لحظتها يتوقف عندك الزمن، تسرح بعيدا في سماء إفريقية فاتنة السمار.القردة أيضا لها طريقتها الخاصة في الاحتفاء بالزوار. بعدها تحملك قدماك مرغمة نحو حلقية أخرى، لتطرب مسامعك وتمتع نظرك برقصات كناوة، سيقاوم جسدك الرغبة في الحركة، لكن حواسك سترقص لا محالة. غير بعيد تجلس العرافات على كراسيهن المهترئة، في انتظار عانس تسلل اليأس إلى قلبها، أو ساذج يعاني البطالة ويلقي اللوم على الآخرين، وعلى السحر والعين والشعوذة. عموما سحر العرافة لا يفلح أمام سحر المكان ولا يضاهيه أبدا.

إذا أشحت بنظرك أبعد قليلا، ستجد صنفا آخر من الخدمة، ولنقل أنه فن، هو نقش الحناء، وتتهافت عليه الإناث من جميع الأعمار والجنسيات، يجاوره في الإقبال فن الوشم على الجسد. متعة التجوال بالساحة لا تخلو من ألوان، فالصانع التقليدي يتفنن كعادته في تأثيث جوانب الأزقة والممرات بأجمل الحلي والحلل، يبهر بها بني وطنه قبل أن يبهر الأجانب والزوار.

وأنت تتابع هيامك في الساحة، سينال منك العطش والجوع بلا شك، لكنك سترتبك وتحتار أي عصير سيطفئ لهيب عطشك وأي طبق سيذهب جوعك، فجنة جامع الفنا حبلى بأطيب ألوان الفاكهة وأشهى أصناف الطعام. وإن كنت من عشاق القهوة أو الشاي، فستجد ضالتك في المقاهي المحيطة بالساحة، وستكافئك أيضا بأبهى الإطلالات التي تعلو بك إلى الفضاء، فتخال نفسك متربعا على عرش بلقيس لكن بعيدا عن اليمن.

سرحت كثيرا ولا شك أن قدميك تخدرتا من الألم، لكن نفسك لا تطاوعك، تأبى بشدة الاستفاقة من هذا الحلم الجميل، وكأنك في متاهة قصر فيرساي، تضيع فيها عوالم عدة، تنصهر فيها عدة ثقافات لتبدع تحفة فنية يعشقها المغاربة وغيرهم، يسافرون إليها وفيها، يؤثثون من زخمها ذاكرتهم وذواتهم على حد سواء.

ربما حان الوقت لتترك الساحة، لكن غير بعيد مطلقا، إلى جارها “جامع الكتبية”، هذا الصرح الذي استحق بجد لقب “سبابة مراكش” ، يظل واقفا شامخا وقد كلف نفسه بمهمة حراسة الساحة، يسهر عليها مثلما تسهر عيون زوارها داخلها.

في مراكش قد يختلط عليك الأمر، ينقلب الواقع سحرا والسحر ينزل بك إلى الواقع، وقد يطير بك إلى السماوات العلا، لتستقر بعدها على أرض الجنة أو جنة الأرض، مراكش.