في أربعينيتك.. أمي الحبيبة..مصطفى لغتيري

جريدة أرض بللدي-ليلى التجري-

مصطفى لغتيري-

أمي الحبيبة.. وأنت في راحتك الأبدية، اسمحي لي أن أثقل عليك بهذه الكلمات، التي شعرت بها تغالبني، وتشاكسني، وتأبى إلا أن تفتك من أسر الفكر، حيث توجد بالقوة على حد تعبير الفلاسفة، لتنكتب في كلمات وتملك بالتالي وجودا مستقلا يسميه الحكماء”وجودا بالفعل”..
يحضرني بقوة هذا الشعور بأنك ابدا لم تكوني مجرد ام.. لقد كنت لي وطنا، وطنا حقيقيا يشعرني بقوة الانتماء، ويمنحني القدرة على بذل المجهود كي اكون جديرا بك.. في كثير من الاحيان كنت اسعى لتحقيق النجاح من اجلك كي تفخري بي امام قريناتك، ولأن كل نجاح لي كان يجعل ابتسامتك تتسع اكثر فاكثر، وهذا كان يسعدني بل يطير بلبي، فاسعى لتحقيقه بسبق إصرار وترصد ..
امي العزيزة لقد كنت غيثا يهطل كلما جف العالم من حولي، وتسرب بعض اليأس إلى نفسي، فتهطل شآبيبك مدرارا.. تطهرني من الحزن والالم، وتجدد في أعماق نفسي الأمل.. كنت شجرة وارفة الظلال، كلما لسعتني حرارة قيظ الزمان اويت إليك مهرولا، كي تخففي ما بي، فأستجمع في حضرتك انفاسي كي أستانف كفاحي في الحياة من جديد.. كنت فردوسي الحاضر والمفقود، كلما تهت عن نفسي وجدتها فيك.. وحين تتكلس مفاصل الحياة وتصبح غير قادرة عن الحركة، كنت أنت البلسم الشافي، الذي يطوعها كي تكتسب مرونتها، وتمضي بي قدما نحو أفق جديد.. كنت الحلم الذي أتمسك بتفاصيله، كلما أتعبني الواقع، فحين أشعر بالضيق يكبس على انفاسي، كنت آوي إلى النوم طالبا للسلوى والرجاء، فما إن أغمض عيني وارتمي في حضن المجهول، حتى يظهر لي وجهك بشوشا، وتحضن قلقي وحيرتي عيناك الوديعتان، وتشملني من اخمص قدمي حتى قنة رأسي بسمتك المشرقة، حينها تقدمين لي شمعة مشتعلة وتشيرين لي بيدك نحو الطريق، فاشعر براحة نفسية لا تعادلها راحة، وأسعد وانا أحيا في كنف الحلم، وحين استيقظ يبقى في النفس والقلب والعقل قبس من نورك، يضيء لي الدرب الذي تسوقني نحوه الاقدار.
هل اقول فقدتك؟ ابدا لا يمكن ذلك، فأنت هناك في عمق الأعماق تسكنين، في جيناتي، في فرحتي، في طفولتي، في كلماتك المحفورة في الذاكرة، في ابتسامتك الخالدة، في رونقك المتجدد.
حين انطفأت تلك الشعلة بداخلك، ونمت نومك الأبدي، قدمت لي درسك الأخير، الذي سيظل سراجا يضيء فكري ما حييت.. وكأنك تقولين لي بتعبير فصيح “لا تفزع ولا تجزع، فالموت ليس بشيء، ولا يمكنه أن ياخذ منا مهجات قلوبنا، أبدا لا يمكن ان يضيع منا شيء نمتلكه حقيقة، شيء متجدر في قلوبنا ومترسخ في عقولنا ووجداننا.. فلسنا ولن نكون ابدا ذلك الجسد، الذي تنتهي صلاحيته يوما، بل نحن كل ذلك البناء المعنوي الشامخ الذي بنيناه معا لبنة لبنة، هو ذكرياتنا معا.. هو أفراحنا أحزاننا، لحظاتنا القوية في الحياة..
ياه كم عشنا لحظات فرح معا، وكم عشنا لحظات صعبة كذلك، انبثق فيها الأمل فجأة، حين كنا نظن ان لا مخرج لنا من قسوة الحياة ومرارتها.
وأنسى ما أنسى لا يمكن أن أنسى أبدا تلك اللحظة، التي كنت أحمل فرحتي كهدية ثمينة بعد نجاحي في البكالوريا، وما أن نزلت من الحافلة حتى وجدتك في انتظاري، فتعانقنا وبكينا من الفرح معا، فكان الناس يسألوننا ماذا حدث هل رسبت؟ فكنا نجيب وسط سيل من الدموع انني نجحت، فكان الناس يستغربون حالنا.
لو كتبت عن كل فرحة وحزن لما كفاني الحبر والحروف ولو كان البحر والنهر لعباراتي مدادا.
لك الرحمة ايتها الأم العظيمة.. لقد كنت لي بحق أما واختا وصديقة.. فلك الخلود الذي تستحقينه..