رشيد الكويرتي من فاس
بالك، بالك”، “عندك، عندك”، عبارات لا بد أن تثير انتباهك وأنت تتجول في أزقة المدينة العتيقة لفاس؛ ومن يسمعها لا بد أن يلتفت إلى مصدر النداء، قبل أن تلوح له بين الزحمة دابة تحمل أثقالا، تشق طريقها وسط الجموع، الذين يفسحون لها الطريق ملتصقين بأبواب المتاجر المتراصة على قارعة دروب المدينة المكتظة بالزوار، مغاربة وأجانب.
لقد شكلت الدواب، على مر التاريخ، وسيلة نقل أساسية داخل أحياء مدينة فاس العتيقة، التي تعد أكبر مدينة في العالم لا تدخلها السيارات؛ فدروبها الضيقة والملتوية والمتدرجة، التي تجعلها تضيق بالمارة، تجعل منها مدينة حكرا على الراجلين والدواب.
وللدواب المستعملة في نقل البضائع، وكذلك الأزبال والأدوية والمرضى والموتى، بدروب وأزقة المدينة العتيقة لفاس قانون خاص بها، يتمثل في “قرار بلدي ينظم المرور والمراقبة الصحية للدواب الحاملة للبضائع داخل المدينة العتيقة”، تم تحيينه، مؤخرا، من طرف الجماعة الحضرية لفاس، حيث وقعه إدريس الأزمي الإدريسي، عمدة المدينة؛ وأرسله إلى سعيد السرغيني، رئيس مقاطعة فاس المدينة، قصد التطبيق.
نقل البضائع على الدواب “لوك” المدينة العتيقة
منذ أن تأسست مدينة فاس، قبل أزيد من 12 قرنا، لم يغفل بانوها إحدى الركائز الأساسية لاقتصادها، ألا وهي الدواب، فأقاموا لها إسطبلات في كل ركن لتنعم بالراحة والمأكل والمشرب عندما تروح في آخر النهار بعد يوم متعب في حمل الأثقال، من سلع وبضائع، من وإلى مختلف أرجاء المدينة.
ولم تعد هذه الفنادق، اليوم، تقوم بالدور ذاته بعد أن تم تحويل جلها إلى ورشات تحتضن أنشطة لمختلف الصناعات التقليدية؛ وضع أصبح معه ممتهنو نقل البضائع على الدواب يواجهون متاعب في إيجاد أماكن لمبيت بهائمهم، ما أكده عبد العزيز العزوزي، صاحب دابتين للنقل، أوضح لهسبريس أن ما بقي من هذه “الفنادق” حالتها لا تليق بمبيت الدواب.
وكشف عبد العزيز أنه يترك بغليه ليلا بـ”فندق باب الكيسة” بدرب المشروم، فيما يفضل بعض زملائه “فندق الشطابة” أو “فندق” كائنا بباب الفتوح لإيواء بغالهم وحميرهم، كاشفا أنه يؤدي 100 درهم للشهر عن كل دابة مستفيدة من خدمات “الفندق”؛ فيما يتكفل هو بمأكلها ومشربها، الذي تناهز نفقاته ما لا يقل عن 25 درهما يوميا.
المتحدث ذاته أوضح لهسبريس أن البهائم تنقل مختلف السلع داخل المدينة العتيقة بفاس، أو منها إلى خارج أسوارها، لتأخذ هذه البضائع، خاصة المصنوعات التقليدية، طريقها إلى باقي الأحياء الحديثة أو إلى مدن ومناطق أخرى، موردا أن ممتهني هذه الحرفة يتمتعون بالثقة الكبيرة لدى التجار والصناع، فهم من يتكفل، مثلا، بنقل بضائعهم إلى المحطة الطرقية لإرسالها إلى أصحابها بمدن أخرى.
منافسة أصحاب العربات اليدوية
وأبرز عبد العزيز العزوزي أنه يشغل معه أشخاصا كبارا في السن، لهم خبرة في سوق الدواب بين أزقة المدينة، مبرزا أن عائدات هذه الحرفة لم تعد كما كانت في السابق، إذ بالكاد يكفي دخلها لسد الحاجيات اليومية لأصحابها؛ وزاد: “إذا لم يعمل الحمال فلن يجد ما يأكله”، كما كشف أن أصحاب العربات اليدوية (الكراريس) أصبحوا ينافسون الدواب الحاملة للبضائع؛ متهما إياهم بكونهم أفسدوا “لوك” المدينة العتيقة لفاس وجماليتها.
“هم يضيقون الممرات علينا، أحيانا تقع حوادث بين دوابنا وهذه العربات.. لقد أصبح من هب ودب يبادر إلى شراء “كروسة” وينطلق في ممارسة النقل داخل المدينة”، يشتكي عبد العزيز، الذي أبدى أسفه لما آل إليه وضع بعض الحمالة على الدواب؛ وزاد: “هناك من لم يعد يقوى على تتبع البهائم ويعيش متشردا يتسول تجار المدينة”، كما أبدى أسفه لعدم تعاطف التجار مع هؤلاء الحمالة الذين أفنوا عمرهم في خدمتهم.
“هم لا يعترفون بالجميل الذي قدمه الحمالة لهم.. لقد أصبحوا في سلة المهملات.. الحمالة الممارسون هم من يتعاطفون معهم.. لا نريد أن يبقى هؤلاء ضائعين”، يقول عبد العزيز، الذي أوضح أن “الشباب لما يرون مآل هؤلاء الحمالة يعزفون عن القيام بهذا العمل”.
من جانبه، طالب حسن الدحراجي، أحد ممتهني نقل البضائع على الدواب، بضرورة الحفاظ على هذه المهنة من الانقراض، وأبرز أن هناك أزقة لا يمكن للعربات المرور عبرها نظرا، لكونها غير مستوية، كما أن هذه العربات لا يمكن لها أن تنقل السلع والبضائع لمسافات طويلة، وزاد متسائلا: “هل يمكن لـ”الكروسة” أن تنقل البضاعة من الديوان إلى باب الفتوح أو المحطة الطرقية؟ أو أن تنقلها عبر زنقة الرطم التي توجد بها 85 درجة؟”، موردا أن الحمالة على الدواب ينقلون جميع السلع، مثل “البطانة” (الجلود) و”الجبادور” و”القميص” و”الصابرة”.
تنظيم سير وجولان الدواب
لحركة مرور الدواب داخل أزقة ودروب وحارات المدينة العتيقة لفاس قانون ينظمها، تم تحيينه، مؤخرا، من طرف الجماعة الحضرية لفاس من أجل تطبيقه من لدن مقاطعة فاس المدينة، وهو قرار ينظم بشكل دقيق المرور والمراقبة الصحية للدواب الحاملة للبضائع.
سعيد السرغيني، رئيس مقاطعة فاس المدينة، أوضح في لقاء بهسبريس أن حركة سير وجولان الدواب بمدينة فاس العتيقة منظمة بموجب قرار قديم تم تحيينه بعد أن أصبح هذا النشاط تعتريه مظاهر العشوائية وعدم التقيد ببنود القرار، مثل قيام شخص واحد بتدبير دابتين أو ثلاث في الوقت نفسه، مكتفيا بربطها على شكل النوق في الصحراء.
وأرجع المتحدث ذاته، كذلك، تحيين هذا القرار إلى توصل المقاطعة بشكايات في الموضوع، ضمنها شريط يوثق لشخص يقوم بسوق ثلاث دواب وسط زقاق العطارين، المكتظ بالمارة، وهي محملة بالجلود المدبوغة، وزاد: “وبالتالي قررنا عند تحيين القرار أن نضيف إليه إضافة بسيطة تنص على منع نقل الجلود على الدواب في هذا الممر الرئيسي، الذي يرتاده السياح، من العاشرة صباحا إلى الثانية بعد الزوال”، وأشار إلى أن القرار يحدد المسارات المستعملة من طرف مستغلي الدواب الحاملة للبضائع، “والتي تم تقسيمها إلى مسارات صاعدة ونازلة، تجنبا لاحتكاك الدواب في ما بينها بأزقة المدينة العتيقة”.
وحسب هذا القرار، الذي تتوفر هسبريس على نسخة منه، “يتعين على أصحاب الدواب الحصول على رخصة بلدية للاستغلال تثبت صنفها، وتتضمن رقمها الترتيبي الذي يجب إلصاقه بأذن الدابة”، و”يتعين أن تتوفر كل دابة على بطاقة صحية تضبط من خلالها وبصفة منتظمة ومستمرة حالتها الصحية التي يجب مراقبتها مرة كل شهر بالمصالح البيطرية لـ”الفندق الأمريكي” الكائن بطريق تازة”.
كما يشير القرار ذاته إلى أن أنه “يمنع على مالكي ومستعملي الدواب المستغلة في نقل الأشخاص أو في نقل البضائع الإساءة إلى هذه الأخيرة بكل الوسائل التي من شأنها التأثير على صحتها وسلامتها، وذلك بمنع ضرب الحيوانات ضربا مبرحا قد يتسبب في جروح أو كسور تضر بها”؛ بالإضافة إلى “منع استعمال الآلات الحادة لوخز الدواب قصد تسريع ركضها”، و”عدم استعمال الحبال الحادة لتثبيت البضائع فوق ظهور الدواب وذلك من أجل تلافي جرح الحيوانات أو إصابتها بتعفنات جلدية”.
كما جاء في القرار ذاته أنه “يتعين على مالكي ومستعملي الدواب إيواءها في إسطبلات تتوفر على كافة الشروط الصحية”؛ و”أن تحمل هذه الدواب صفائح مطاطية حفاظا على سلامتها وتفاديا لانزلاقها بالطريق”؛ كما نص على أنه “يمنع استغلال الدواب في نقل البضائع التي تفوق حمولتها طاقة هذه الأخيرة”، والتي حددت في 100 كلغ للبغل ومثلها للحمار.
وأشارت الوثيقة ذاتها إلى أن “كل مخالفة لمقتضيات هذا القرار يعاقب مرتكبوها طبقا للقوانين الجاري بها العمل بحجز الدابة بالمحجز البلدي لرأس القليعة، ومنعها من التنقل داخل نفوذ المقاطعة، مع أدائهم ذعيرة مالية تقدر بعشرين درهما لليوم الواحد”.