جريدة أرض بلادي_الدار تالبيضاء_
الكاتب مصطفى لغتيري_
ممارسة الصيد بالنسبة إليه أكثر من هواية.. لقد أضحت جزءا من شخصيته، حتى استحق منا- نحن أصدقاءه- لقب “الرايس”، الذي كان يعجبه…. ابتلي بالصيد قبل ردح من الزمن، فلم يعد قادرا عن الابتعاد عن ممارسته.. أصبح بالنسبة إليه أمرا أساسيا في حياته، أبدا لا يمكنه التخلي عنه. أكثر ما يستهويه في هوايته هذه الحديث عنها بكثير من الشغف، حتى أصبح بمرور الزمن حكاء لا يشق له غبار. ما إن يصادف أحد أصدقائه، حتى ينطلق لسانه بحكاية إحدى مغامراته في الصيد، بشكل يجعلنا -نحن أصدقاءه- في حيرة من أمرنا، حقيقة يختلط علينا الحابل بالنابل، لا ندري ما حدود الحقيقة والخيال في حكاياته، لكننا، مع ذلك، نصدق كل ما يحكيه لنا لانه صديقنا، ونستمتع به كذلك لأنه حكاء عظيم.
هذا المساء التقيت به بعد مدة من الغياب.. كنت مضطرا للسفر لعدة أيام، فغبت عن الحي فترة من الزمن. وكان مما افتقدته خلال السفر تلك الحكايات، التي لا أمل من سماعها، حكايات الصيد التي تجود بها بسخاء قريحة صديقي الصياد.
التأم جمعنا الصغير في فضاء المقهى، فبدأ حكايته بعبارة تزيد من شوقنا للإصغاء بشغف:
-لو تعلمنا ماذا حدث لي ليلة امس؟
تطوعت لتحفيزه على الحكي، فسألته:
– ماذا حدث؟ احك لنا.
وهكذا انفتح جراب الحكاية، وبالطبع لا يمكن إغلاقه حتى يلفظ آخر ما في جعبته:
” كباقي الليالي أعددت العدة للصيد. غادرت البيت قبيل الغروب بقليل.. تعرفون ان الصيد ليلا أفضل.. توغلت في الشاطئ بحثا عن مكان هادئ، لا يزعجني فيه أحد. ثم جهزت نفسي، واعدا إياها بصيد وفير.. ألقيت بسنارتي في رحاب المحيط بعد أن أثبت الطعم فيها، بعد ذلك ثبتت القصبة في الماسورة الخاصة، بعد أن غرستها في الرمال بشكل يجعل ثابتة وتتحمل الهزات العنيفة عند حدوثها. اطمأنت نفسي لما قمت به، فنكصت إلى الخلف، جلست على الرمال في انتظار أي حركة تعلن عن سمكة تعلق بالسنارة.
في تلك اللحظة التي شعرت فيها الرضا عن كل ما قمت به، أخذت الظلمة تدريجيا تكتسح المكان، بعد أن غطست الشمس قبل وقت ليس بقصير في الناحية الأخرى البعيدة من الجهة الأخرى للشاطئ، وبدأت درجة الحرارة تنخفض، فشعرت بقشعريرة خفيفة تغزو جسدي. كانت الألوان تتغير ببطء، ومعها تتغير معالم الأشياء من حولي. لا ادري كيف حدث ذلك. شعرت وكأنني غفوت قليلا. فتحت عيني فجأة، فإذا بي أرى صيادا ليس ببعيد عن المكان الذي اخترته للصيد. أصابني ذلك بكثير من الاستغراب، لأنني لم أتعود على وجود هذا الصياد الغريب هنا، ولم تكن لي به سابق معرفة، فحتى لو كان الظلام قد اكتسح المكان، غير أنني قادر على تبيان أشكال الناس الذين أعرفهم، فهيئتهم أبدا لا يمكن أن تخدعني.. التزمت الصمت قليلا، لعل الرجل يبادر إلى تحيتي، لكنه لم يفعل، فقلت في نفسي، لم لا أكون المبادر بالتحية، على الأقل يوفر لي الرجل المؤانسة، التي لا شك أن المرء يحتاجها في هذا المكان الموحش الفارغ من البشر.. في الوقت الذي فكرت فيه بأن أرفع يدي وصوتي بالتحية، ارتجت القصبة أمامي، وإذا بي أركض نحوها مركزا بكل انتباهي عليها، ارتجت القصبة رجة أولى فثانية، فإذا بي أمسك بها، وأقتلعها من الماسورة محاولا أن أتعاطى معها بما يناسب الصيد، الذي علق بها.. لا أدري كيف حانت مني التفاتة نحو الصياد الجار، فكان حاله من حالي. كان في نفسي وضعي تماما، يمسك بقصبته ويحاول أن يتعامل مع القصبة بما يوحي أن سمكة قد علقت بها. رغم استغرابي، تجاهلت الرجل وانخرطت في عملي بكثير من التفاني، أحاول أن أسحب السمكة نحو بر الأمان.. كنت أجمع الخيط في الأكرة بكثير من الحرص، أسرع قليلا ثم أتوقف، محاولا معاملة القصبة بكثير من المرونة، وحين ألمس نوعا من الخفة في يدي أجمع مزيدا من الخيط. في تلك اللحظة تحديدا، لا أعرف كيف انخطف بصري نحو الرجل، كان يقوم بمثل ما أقوم به، استغربت كل ذلك، وأدخل بعض القلق إلى نفسي، لكنني تجاهلته من جديد، ظللت مجتهدا في التعامل مع القصبة والأكرة والخيط والسمكة المفترضة. أتقدم خطوات وأتراجع قليلا.. أميل نحو اليمين ثم أنعطف نحو السيار، فما لبثت السمكة ان ظهرت، فأسعدتني رؤيتها، حاولت أن أتعامل معها بحكمة أكبر حتى لا أضيعها من يدي، وبالفعل بعد حركات متقنة ودقيقة، استطعت الظفر بالسمكة، التي كانت متوسطة الحجم.. أمسكت بها بيدي سعيدا، ثم التفت نحو الصياد، الذي يجاورني، فإذا به هو كذلك كان يمسك سمكة تكاد تكون في حجم السمكة التي اصطدتها.. زاد ذلك من استغرابي، ووطن مزيدا من القلق في نفسي.. “ما هذه الصدف الغريبة؟” قلت في نفسي، ثم عمدت إلى سلتي، وضعت فيها السمكة، التي ما زالت تضطرب بقوة، وكأنها لم تصدق بعد أنها أصبحت صيدا متاحا لصياد، طالما انتظر أن تقع بين يديه.. تجاهلت الرجل وركزت في عملي.. أعددت الطعم من جديد، رميت السنارة في رحاب المارد المتمدد أمامي إلى ما لا نهاية.. ثبتت القصبة في مكانها وأنا استرق النظر من طرف خفي إلى الرجل بجانبي. كان يقوم بنفس ما أقوم به.. فكرت أن أوجه له الكلام في تلك اللحظة تحديدا، لكنني فكرت في تأجيل ذلك، في نفسي قلت” هو الغريب عن المكان ومن الأفضل أن يوجه التحية أولا” لا ادري ماذا كان يجول بذهنه هو الأخر، لكنني ما إن ثبتت القصبة في مكانها، حتى عدت إلى مكاني حيث يمكنني أن أنتظر أي رد فعل للقصبة.. مرة أخرى حين تطلعت إلى الصياد، كان في نفس وضعي.. في نفسي قلت” يبدو كل هذا الأمر غريبا”، قلت ذلك دون تهويل، وكان شخصا غير تلفظ به، لقد ظللت حريصا على الاحتفاظ برباطة جأشي، حتى لا تخور عزيمتي.. كنت في يقظة كاملة، محاولا أن اكون حاضرا بكل بداهتي، ومع ذلك لا أدري كيف انغمضت عيناي للحظات.. غفوت بالرغم عني، وحين لفحتني دفقة ريح باردة استفقت، وفتحت عيني وأنا ألوم نفسي على هذه الإغفاءة التي أصابتني، التي لا تليق بصياد متمرس مثلي. تطلعت إلى القصبة.. كانت منحنية نحو الأمام، بشكل واضح، ترتج ارتجاجا متكررا، انتفضت واقفا، ركضت نحوها، أمسكت بها، وبدأت أتعامل معها بما يناسب ما أتوقعه منها. حضر الرجل ثانية في ذهني، التفت نحوه، فلم يكن هناك سوى الفراغ. أثر ذلك في نفسي، فارتبكت ولم أحسن التعامل مع القصبة، فإذا بالصيد المفترض ينفلت منها.. سحبت الخيط فاكتشفت أن السنارة قد اختفت.. الخيط مبتور في مكان محدد.. تأسفت لضياع الصيد، لكن الاختفاء الغريب للرجل شغل بالي أكثر.. في نفسي قلت هل يمكن لحواسي أن تخدعني بهذه الطريقة.. لا يمكن.. لقد كان الرجل بجانبي، وكنت أوشك ان أحدثه لكنني لم أفعل.
قفلت نحو عدتي.. جهزتها من جديد بسنارة أخرى، أحكمت وثاقها.. زودتها بالطعم، ثم رميتها في الماء، في انتظار سمكة جديدة. حاولت نسيان الرجل، لكنه طغى على تفكيري.. بعد لحظات اهتزت القصبة بعنف، وإذا بي أركض نحوها، وإذا بما حدث قبل قليل يتكرر بجميع تفاصيله.. أعدت الكرة مرارا وكانت النتيجة نفسها.
لحظتها قررت أن أعود إلى البيت لقد ترسخ في ذهني أن الرجل الغريب أحضر معها قفة من سوء الحظ، أفرغها علي ثم انصرف”.
أصغينا – نحن الأصدقاء- لحكاية صديقنا الصياد الطريفة.. علقنا عليها تعاليق متباينة. حاولت أن أفكر بشكل عقلاني في ما حدث له، لكنني عجزت عن ذلك، بيد أنني قلت في نفسي بنوع من السخرية” على الأقل يستطيع تبرير فشله في الصيد بحكاية جميلة”، ثم ودعته وباقي الاصدقاء وانصرفت لأمر يشغلني.