من التفكير اللحظي إلى الاستراتيجي : كيف تحدد المجتمعات مصيرها من خلال فهم الأحداث؟

  بقلم نصيرة بنيوال – جريدة أرض بلادي 

في عالم اليوم، تختلف أساليب المجتمعات في التعامل مع الأحداث، حيث ينقسم التفكير إلى نوعين رئيسيين : التفكير السطحي اللحظي ، الذي يركز على الحدث في لحظته دون البحث في جذوره أو تداعياته، و التفكير العميق الاستراتيجي، الذي ينظر إلى الأحداث في إطارها الأوسع و يفكر في تأثيراتها المستقبلية. إن النهج الذي تعتمده المجتمعات في تحليل الظواهر يلعب دورا أساسيا في تشكيل مستقبلها وقدرتها على التطور.

بعض المجتمعات تتعامل مع الأحداث كما لو كانت مشاهد منفصلة، حيث يتم التركيز على “المشهد” الآني بدلا من السياق العام. عند وقوع أزمة أو حادثة، يكون رد الفعل الأولي قائمًا على العاطفة والانفعال بدلا من التحليل الهادئ. ينظر إلى المشكلة من منظور التأثير المباشر دون البحث في الأسباب العميقة التي أدت إليها. و هذا ما يجعل القرارات المتخذة غالبا قصيرة المدى، حيث تعالج الأعراض بدلا من معالجة الأسباب الجذرية.

في هذه المجتمعات، يتشكل الرأي العام بناء على الشخصيات و الأحداث السطحية بدلا من دراسة الأفكار و السياسات. ينظر إلى القادة و المسؤولين من زاوية تصرفاتهم اللحظية، و. يتم الحكم عليهم بناء على مواقف فردية، بدلا من تقييم رؤاهم و خططهم الاستراتيجية. و غالبا ما تلعب وسائل الإعلام دورا في تأجيج المشاعر، حيث تعتمد على الإثارة لجذب الانتباه، مما يجعل النقاش العام بعيدا عن التحليل المعمق الذي يمكن أن يفضي إلى حلول حقيقية. كما أن القضايا المهمة تصبح مجرد ” ترند” مؤقت على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تتصدر الاهتمام لفترة قصيرة، ثم تستبدل بحدث جديد دون أن يتم استيعاب الدروس المستفادة أو البحث في الجذور العميقة للمشكلة.

على الجانب الآخر، في المجتمعات المتقدمة، يتم التعامل مع الأحداث بطريقة مختلفة، حيث يتم تحليلها كجزء من سلسلة مترابطة من الأسباب والنتائج. لا ينظر إلى أي ظاهرة على أنها منعزلة، بل يتم وضعها في سياقها الاجتماعي و الاقتصادي و التاريخي. فالأزمة الاقتصادية، مثلا، لا يتم التعامل معها كحدث طارئ، بل كمحصلة لقرارات و سياسات ممتدة عبر الزمن. يتم البحث في جذور المشكلة و فهم كيفية تجنب تكرارها مستقبلا.

في هذا النموذج من التفكير، لا تبنى الأحكام على مواقف فردية، بل على الأداء العام و الاستراتيجيات طويلة المدى. كما أن وسائل الإعلام تلعب دورا في التوعية و التفسير، حيث يتم استضافة الخبراء و تحليل الأحداث بناء على دراسات معمقة بدلا من الاقتصار على العناوين المثيرة. التعليم في هذه المجتمعات يشجع التفكير النقدي و التحليلي، مما يساعد الأفراد على رؤية الصورة الكاملة بدلا من الانسياق وراء العواطف اللحظية.

عند مواجهة أزمة اقتصادية، على سبيل المثال، يختلف التعامل معها بين المجتمع الذي يعتمد على التفكير السطحي و المجتمع الذي يعتمد على التفكير العميق. في الأول ، يتم التركيز على ارتفاع الأسعار و تأثير الأزمة على الحياة اليومية، دون تحليل العوامل الاقتصادية التي أدت إلى ذلك، بينما في الثاني، يتم البحث في تأثير العولمة، و الإنتاجية، و التكنولوجيا، و السياسات النقدية، ليتم اقتراح حلول مبنية على رؤية شاملة بدلا من ردود الفعل المؤقتة.

للانتقال من التفكير اللحظي إلى التفكير العميق، هناك حاجة إلى جهود متكاملة تشمل تعزيز الثقافة التحليلية بين الأفراد، و تشجيع البحث و التدقيق بدلا من التلقي السلبي، و دعم إعلام استقصائي يهتم بدراسة الأسباب و التداعيات بدلا من الاعتماد على الإثارة. كما يجب أن تركز المناهج التعليمية على تنمية مهارات التفكير النقدي، بحيث يتم تدريب الأفراد على التحليل قبل التفاعل مع الأحداث.

إن المجتمعات التي تبقى أسيرة التفكير السطحي تظل تدور في دائرة من الأزمات و ردود الفعل المؤقتة، بينما تلك التي تتبنى التفكير العميق تمتلك القدرة على بناء مستقبل مستدام. الفرق بين “مجتمع المشهد” و”مجتمع المؤرخ” هو الفرق بين مجتمع يستهلك الأحداث و مجتمع يصنع التاريخ.