جريدة أرض بلادي -هيئة التحرير-

تعيش مدينة آسفي منذ عقود على إيقاع جدل بيئي متواصل، يزداد حدة كلما اشتدت الروائح المنبعثة من محيط المجمع الشريف للفوسفاط (OCP). هذا الصرح الصناعي الذي يفتخر به المغرب بفضل مساهمته في الاقتصاد الوطني، أصبح في نظر عدد كبير من سكان المدينة رمزاً للاختناق والتلوث والمرض.
مدينة بين الرزق والاختناق
يُشغّل المجمع آلاف العمال والتقنيين والمهندسين، ويمثل شرياناً حيوياً للحياة الاقتصادية بآسفي، حيث تعيش منه مئات الأسر التي ترى فيه مصدر استقرار مادي وأملٍ اجتماعي.
لكن في الجهة المقابلة، تعيش أحياء المدينة، خاصة القريبة من المصانع، معاناة يومية بسبب الدخان الكثيف والغازات السامة التي تغزو الجو، خصوصاً في فترات الليل حيث تهدأ الحركة وتعلو رائحة الكبريت والفوسفور في الأجواء.
سكان هذه المناطق يشتكون من مشاكل تنفسية متكررة، حساسية مفرطة في العينين والأنف، ونوبات سعال مستمرة. بعضهم يؤكد أن أطفاله لا يستطيعون النوم حين تهب تلك الروائح، وآخرون يضطرون لاستعمال أجهزة الاستنشاق وأدوية الربو بشكل يومي.
مصدر خير للبراني… ومصدر خطر للسكان
ما يزيد من حدة الاحتقان أن الساكنة ترى أن خير المجمع يصل إلى مناطق بعيدة، بينما يبقى نصيب المدينة التلوث والروائح والبطالة والفقر.
فبينما يدر المجمع أرباحاً ضخمة على خزينة الدولة، تبقى أحياء آسفي تئن تحت وطأة الغازات السامة وغياب المشاريع البيئية والتنموية الموازية.
يقول أحد سكان حي لالة هنية:
أنا وبنتي كنستعملو الفونطولين بسبب الحساسية، وفاش كتطلق الريحة ديال لوسيبي كنعيشو العذاب… حشومة مدينة بحال آسفي تولي تتنفس الموت كل يوم”.
بين الشعبوية والمسؤولية
في المقابل، يرى البعض أن النقاش حول إغلاق المجمع يحمل نوعاً من الشعبوية، لأن آلاف الأسر تعتمد على عملها داخله. ويؤكد هؤلاء أن المطلوب ليس إيقاف المصنع، بل إصلاح بيئي حقيقي يُوازن بين الحق في التنمية والحق في بيئة سليمة.
وتُطرح هنا أسئلة جوهرية:
هل السكن هو الذي اقترب من المجمع أم أن توسع المجمع هو من زحف على المدينة؟
وهل قامت الجهات المعنية بدراسات بيئية شاملة قبل الترخيص لبناء الأحياء المجاورة له؟
حلول ممكنة قبل فوات الأوان
الخبراء البيئيون يؤكدون أن الحل لا يكمن في الإغلاق أو التهديد، بل في الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة.
فيمكن للمجمع الشريف للفوسفاط، بموارده الهائلة وتجربته الصناعية، أن يُنشئ محطات لمعالجة الغازات والمخلفات، وأن يعتمد نظاماً صارماً للمراقبة البيئية بتنسيق مع وزارة الانتقال الطاقي والبيئة والمجالس المحلية.
كما يجب التفكير في إعادة إسكان السكان المتضررين في مناطق بعيدة نسبياً عن محيط المجمع، وتعويضهم بشكل عادل، حفاظاً على صحتهم وكرامتهم.
الحق في الهواء النقي
القضية البيئية في آسفي لم تعد ترفاً، بل أصبحت مسألة حياة أو موت. فمدينة البحر والفوسفاط لا تستحق أن تكون عنواناً للتلوث والاختناق، بل نموذجاً للتنمية النظيفة التي تجمع بين الصناعة والإنسان.
ويبقى السؤال المطروح:
هل تتحرك السلطات والمكتب الشريف للفوسفاط قبل أن تتحول “رائحة الكبريت” إلى صرخة غضب من ساكنة أنهكها الصمت والدخان؟
