الأبعاد الدلالية والجمالية في رواية “ضجيج الرغبة” للأديب مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-

عبد النبي بزاز-

 

رغم ما يميز رواية “ضجيج الرغبة” للأديب والروائي المغربي مصطفى لغتيري من غنى “التيمات”، وتنوع أساليب السرد وطرائقه إلا أن موضوعيْ العشق والخيانة، بأبعادهما القيمية والعاطفية والسيكولوجية يطغيان على مجريات الوقائع، بحيث يشغلان الجانب المحوري داخل نسيج الرواية، وإن ارتبطا بشخصيات (هدى، وعشيقها محسن، وزوجها أحمد)، ويتحكمان في الإمساك بخيوط الحكي، ورسم معالمه، وتحديد أبعاده ومقصدياته. فعلاقة هدى بمحسن انطلقت شرارتها الأولى عن طريق تواصل عبر شبكة التواصل الاجتماعي بدافع انجذاب تشكل زخمه من حمولات عاطفية جارفة: “كان عبارة عن صراخ قوي يتفجر في دواخلها. انجذاب قوي شعرت به تجاه هذا الرجل، الذي تعرفت عليه عبر شبكة التواصل الاجتماعي..” ص 29، لتتشكل إرهاصات علاقة إعجاب ما فتئ يتقوى ويشمخ ليمس ثوابت الزواج ومواثيقه: “في إحدى المرات طلبت منه أن يكف نهائيا عن إرسال الصور، لأن زوجها قد يراها ويتسبب لها في مشكلة عويصة.. ” ص 29، وسرعان ما انتقلت لعقد مقارنة بينه وبين زوجها: “في لحظة ما وجدت نفسها تقارن بينه وبين زوجها، الذي لا يقوم بتصرفاته إلا بعد تفكير طويل، ولا يجازف قيد أنملة في الدخول إلى أية مغامرة غير محسوبة النتائج. رجل عملي وناجح بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لكنه للأسف رجل نمطي، وعقلاني إلى أقصى الدرجات، منظم في كل شيء حتى في عواطفه… فقط في تلك اللحظة اتخذت قرارها بأنها أحبت (محسن) ولن تتخلى عنه أبدا، وأنها مستعدة لتحمل عذاب الضمير من أجله…” ص 31. بحيث أطلقت هدى العنان لاندفاعها الجامح في اجتراح علاقة لا تحترم نبل الحياة الزوجية، بحثا عن إرضاء صبوات عشق لم ترو ظمأه مع زوجها الشرعي الذي يعجز عن إشباع شبقها العاطفي (منظم في كل شيء حتى في عواطفه) بسبب استنفاد عمله لكل طاقاته الذهنية والحسية مما حذا بها للبحث عن رجل بديل يرضي شغف عشقها المتأجج بشكل دائب ودائم: “ــ هل يهمك فقط أن تتسلى بي، ثم تمضي لحال سبيلك.” ص 32 ، سعيا لضمان تعهد يمنح لعلاقتها الجديدة إيقاع الديمومة والاستمرارية، إلا أن الأمور لم تستجب لهواها، على الأقل في البداية، لما اخترق ذهنها ووجدانها من وساوس وهواجس َولَّدت لديها ضعفا ممزوجا بالغم والكدر: “في لحظات بعينها تسترق النظر إلى زوجها، فتشفق على حاله ، تشعر بغم يثقل على قلبها بشكل لم تتوقعه أبدا، لقد ظنت سابقا أنها تستطيع أن تتعايش مع وضعها الجديد بكثير من السلاسة واليسر، لكن الأمر بدا أقوى مما توقعت.” ص 40، ورغم ذلك لم تفلح في إنهاء علاقتها مع محسن: ” ــ أنا أعيش جحيما… لن تفهم شيئا، لأنك غير متزوج… ــ إذن لن تلتقي ثانية ، ولا تتصل بي رجاء … ــ أعتذر محسن لم أعد أتحمل.” ص 43، فانتابها تمزق رهيب ومؤلم: ” ــ محسن .. أنا أحيا في جحيم… أصبحت ممزقة بينك وبين زوجي. ” ص 60، إحساس ضاعف من معاناتها النفسية والعقلية فتمنت، في لحظات ضعف، لو لم تتورط في هكذا علاقة: “حقيقة أتمنى لو لم أحبك، لو لم أتواصل معك نهائيا… أعشقك وأكره عشقي لك. ” ص 61، لكن الأدهى والأعوص يتمثل في عدم قدرتها على نسف جسور التواصل بينهما بدافع عشق متأجج وجامح: ” أحبك محسن.. سأجن إن لم أعش معك ما تبقى من حياتي. ” ص62 ، لتتحول مشاعر العشق إلى قناعة راسخة لديها: ” شعر كل منهما بأنه امتزج بالآخر بشكل لا رجعة فيه.. “ص 64 ، تمازج وانصهار صدعت بحقيقته هدى: “لا يهمني شيء.. أنا معك ولن أفارقك أبدا.. حتى وإن تخليت عني لن أتخلى عنك.. أنت وما دونك الهباء. ” ص 64، فيتخذ سير الوقائع مسارا من الكشف عن حقائق عرجت به في منحنيات كانت انطلاقتها مع إسرار محسن لهدى عما يمتلكه من ثروة عريضة تؤهله للاستثمار سواء في مارسيليا حيث يقيمان أو حتى في بلدهما المغرب، حيث صارحها بذلك ذات لقاء حميمي: “أنا غني هدى.. ورثت ثروة كبيرة.. وأفكر في الاستثمار هنا. ابتسمت هدى غير آخذة كلام محسن محمل الجد، ثم أردفت قائلة: (استيقظ أنت في أوربا.. الاستثمار هنا يحتاج ثروة حقيقية.. لا تظن أنك في المغرب ممكن أن تفتح مقهى، وها أنت قد أصبحت مستثمرا..ـ لدي ثروة كبيرة. أنا فقط لا أريد أن أتباهى بذلك… تقدر ثروتي بأربعة ملايين أورو.. ” ص66، خبر أذهلها، صعقها حتى ظنت أنها في حلم. وأمام تطور الأحداث، وما صاحبها من مستجدات، وما فتحته من مسلكيات دخول أحمد زوج هدى كطرف في موضوع ثروة محسن الذي لم تفصح هدى عما يربطها به من أحداث عشق مدعية تعرفها عليه عبر الفايس واقترح عليها مساعدته على التخطيط لمشروع استثمار بمارسيليا حيث يقيمان، لتقحم زوجها في الموضوع بحكم تجربته كمحاسب. وبعد تأكد الزوج من علاقتها بمحسن، بعد جلسة جمعتهما حول مشروع استثمار في المغرب، وكَّلَ لها زوجها أحمد، مكرها، النيابة عنه في ذلك نظرا لالتزامات العمل التي لا تسمح له بالسفر خارج فرنسا. فرصة راقت العشيقين بينما حَوَّلت تفكير الزوج إلى استغلال زوجته، بعد أن تأكد من خيانتها له، للسطو على ثروة محسن والتخلص منه: “ويقول في نفسه (فقط لو أنها تنضم إلى صفي، لأخذنا منه كل شيء وطردناه كالكلب الأجرب..)”ص 110، خصوصا بعد أن حصل على أدلة قد تساعده على استمالتها حين نجح في أخذ صور عبر الهاتف لعشيق زوجته مع راشيل في مواقف حميمية: “كان أحمد قد أخرج هاتفه الذكي وطفق يلتقط بعض الصور المنتقاة، وهو يشعر في أعماق نفسه أنه ظفر بصيد ثمين… انفتحت شهية أحمد للتصوير، فجمد في ذاكرة الهاتف أطياف الحب المتحركة.. ” ص 108، إلا أن محاولته لم تؤت أكلها بعد إقناع محسن لهدى بعدم صدقية علاقته مع ريشال فاضطر لمجاراتها للتخلص من تشبثها به، ولجأ بعدها في تكليف عصابة بحبس أحمد، دون عنف أو اعتداء: “اسمع السيد أحمد.. لن نمسك بأي سوء إن هدأت، وتركتنا نقوم بمهمتنا دون مشاكل.. سنقضي رفقتك هذا اليوم وفي نهاية النهار سنتركك ونذهب لحالنا.” ص131، ليفسح له المجال في السفر إلى المغرب رفقة هدى في ظروف مريحة. فيقلعان عبر طائرة من فرنسا إلى المغرب لاستئناف استنفاد فصول قصة حب مشرعة على أفق مسكون برغبة لا ينضب ماؤها، ولا ينفد زخمها: “وحدها الرغبة بدا صوتها خفيفا ثم ما لبث أن ارتفع زعيقها ليتفجر بعد حين في غرفة على مشارف المحيط ، حيث سيتردد صداه طويلا ، طاغيا على دونه من أصوات.” ص 133، مقطع ينهي تفاصيل الرواية وفصولها بتعليق أفق انتظار المتلقي ، الذي سيخوض غمار تأويلات مصحوبة بحزمة من أسئلة وافتراضات.

فتركيزنا على موضوع العشق والخيانة في نسقه العاطفي والقيمي لا ينفي غنى الرواية بموضوعات أخرى من قبيل التمزق الذي تضمنته العديد من الوقائع، وطبع الكثير من جوانبها وجزئياتها: “فشعرت هدى بكثير من التمزق، لم تشعر بمثله من قبل.. داهمها إحساس كبير تجاه أسرتها ، وفي نفس الوقت اقتحمتها رغبة قوية وعميقة في أن تحيا في كنف حب جارف لم تعش مثله من قبل.” ص14، ليتأكد ذلك على لسان شخصية هدى: “أصبحت ممزقة بينك وبين زوجي…” ص 60، والاستلاب كما ورد في قول محسن: “بل امتلك كثيرا من الجرأة ليقول في نفسه بأنه أكثر فرنسية من كثير ممن يقيمون هنا في هذه المدينة الهجينة.. فرنسيته السليمة التي تحاكي فرنسية أهل باريس أمدته بهذا الإحساس… لقد تخرج من (ليسي ليوطي) في الدار البيضاء المعروف بهويته الفرنسية الوافدة، كما أنه كان زبونا دائما للمركز الثقافي الفرنسي من أجل حضور أنشطته الثقافية، لذا لم يكن أبدا يشعر بأن فرنسا، لغة وثقافة ونمط عيش، غريبة عنه، بل حتى في المغرب كان يرطن دوما باللغة الفرنسية..”ص 17، الذي كان يتباهى بتمثله للغة والثقافة الفرنسية، وإلمامه الواسع بأسسها ومبادئها في انزياح جلي عن أصول هويته وثوابتها. والمفارقة التي وسمت علاقة هدى بمحسن في انعتاقها عن طوق القيم والأخلاق بأعرافها الأ صيلة داخل المجتمع: “فطنت لحظتها إلى أنها لم تفكر في زوجها وهي رفقة محسن… هكذا شعرت أنها قد آمنت بحبها لمحسن، واعتبرته حقها المشروع..” ص 68 في شرعنة لسلوك يشذ عن أخلاقيات الزواج، ويسيء لقيمه الرمزية والاعتبارية، أو إحساس محسن حين كان يراقص راشيل حيث تساءل، بحيرة، وقلق: “هل يمكنني أن أحب امرأتين دفعة واحدة؟” ص 85، وإن كان مفهوم وتصور الحب هنا يظل فضفاضا لافتقاره للصدقية العاطفية، واقتصاره على المعاشرة الجنسية في حالات لا تخلو من رغبات بوهيمية صرفة. والمفارقة التي عكستها شخصية محسن، فهوالمنتمي لطبقة ميسورة (من خلال دراسته في مدارس البعثة الفرنسية [ليسي ليوطي] ، وإقامته بحي راقي إلا أن ذلك لم يمنعه من معاشرة أطفال الأحياء الفقيرة المجاورة مما يثير الاستغراب): “حتى أنه من يعرف أنه ينتمي إلى أسرة غنية يستغرب ذلك… ” ص 123 ، بل انخرط معهم في أعمال شغب لا تمت لانتمائه الطبقي بصلة بقدر ما تؤسس لمفارقة موسومة بانزياح جلي، وانحراف ظاهر: “وغالبا ما يكون يشارك في الغارات التي يقوم بها حي العصابة التي ينتمي إليها على حي قريب أو بعيد، فيعيثون فيه فسادا وخرابا.. ” ص 124، حيث أيقظت بداخله مشاعر شقاوة ظلت هاجعة في أعماق زمن طفولي مستعينا بمشاعرها الدفينة في كبح جماح رغبة الانتقام من أحمد زوج عشيقته هدى: “ما سمعه محسن على لسان هدى كان بمثابة إعلان حرب من طرف أحمد عليه، خاصة تجسسه عليه والتقاطه للصور ، وتهديده لهدى كي تنصب عليه..” ص 123 ، فكلف عصابة باختطاف أحمد ليوم واحد ثم إطلاق سراحه دون إيذائه ،ليفسح المجال لكليهما (هو وهدى) من أجل السفر للمغرب .وموضوع الهجرة نحو أوروبا (فرنسا)، وما يصاحبها من اغتراب يتولد معه شعور دائم بحنين العودة إلى الوطن: “وشعر أن القدر يحبه حقا ، ويسر طريق عودته نحو الوطن، الذي غادره مكرها بسبب الحاجة الملحة إلى شغل يضمن كرامته.” ص 97، موضوع الشغل والتوظيف الذي يشكل أزمة لدى فئات عريضة من أبناء وطنه الذين تلفظهم الجامعات ليجدوا أنفسهم عرضة للعطالة والضياع كما يعكسه الحوار الذي دار بين هدى وصديقتها حسناء في مقصف الجامعة: ” ـ هل تظنين أن التوظيف بعد التخرج متاح للجميع؟.. إنك تحلمين.” ص 23 .ليتضح أن الرواية غنية بموضوعات و” تيمات ” تستدعي أكثر من قراءة ومقاربة. فضلا عن ارتباط أشخاص آخرين، غير هدى ومحسن وبنسبة أقل أحمد، ساهموا في تسيير دفة الحكي، ونحت وقائعه، مثل يوسف صديق محسن الذي كان يشتغل بحانة، وجمعته علاقات معاشرة بكريستين وصديقتها راشيل التي تعلقت بمحسن ذات زمن مجوني كادت تعصف بعلاقته مع هدى. كما اعتمد الروائي على أدوات السرد الأساسية من استرجاع كما في: “أغمضت هدى عينيها واسترجعت بكثير من الدقة كل التفاصيل التي عاشتها رفقة محسن.. ” ص 71 ، و “مونولوغ”، في مثل : “في نفسه قال (جنة يوسف جحيم لذيذ..)” ص 57 ، وحوار خارجي حفلت به العديد من مقاطع الرواية وفصولها مكسرا رتابة السرد وخطيته، ومضفيا عليها صبغة من تنويع وتبديل طال لغة متنها التي تأرجحت بين نَفَس مجازي: “المساء يتدحرج بأناة نحو مستقره الآمن، لاحسا بلسانه المخملي ما تبقى من ضوء النهار.. ” ص 5 ، واستعمال دارجي: “نوض أصاحبي .. ما تحشمناش.” ص 84، أو فرنسي حينا :”L odeur du pays”، وإنجليزي أخرى: made in morocco” ص 49.

فرواية “ضجيج الرغبة” تحمل بين دفتيها عناصر ومكونات روائية ذات أبعاد جمالية ودلالية صادرة عن رؤية تؤالف بين شخوص ووقائع لخلق توليفة متعددة المناحي، متنوعة الآفاق والمقصديات مما يستدعي قراءات ومقاربات بأدوات منهجية وتحليلية كفيلة بكشف ما تزخر به من غنى وتنوع إبداعي نتمنى أن نكون قد لامسنا بعضها من خلال هذه القراءة.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

رواية ضجيج الرغبة لمصطفى لغتيري ــ منشورات دار التوحيدي ـ الرباط ، طبعة أولى