جريدة أرض بلادي -بقلم عبد العزيز برعود. المغرب

مقدمة
ليس الشعر عند خديجة بوعلي زخرفًا لغويًا أو رصفًا من الصور، بل هو رحلة وجودية في متاهة الكينونة، واشتغال على اللغة بوصفها بيتًا للروح ومجالًا لتأمل الوجود في أعمق تموجاته.
منذ قصائدها الأولى، تشي هذه التجربة بنَفَسٍ تأملي يزاوج بين الحنين والحكمة، بين الانكسار والضوء، بين الذات والمكان في حوارٍ شفيف لا ينتهي.
إنها كتابة تُصغي لوشوشات الذاكرة كما تُصغي لهدير البحر، وتستدرج المعنى من تفاصيل اليومي لتعيد إليه نوره الرمزي ودفء إنسانيته.
في عالمها الشعري، لا شيء عابر: الماء يحمل ذاكرة الطفولة، الجبل يتكلم بصوت الأمهات، والبحر يرمّم ما انكسر في القلب.
اللغة الشعرية: من الشفافية إلى الانخطاف الرمزي
اللغة عند خديجة بوعلي لا تُعلن، بل تُومئ.
هي لغة اللمسة لا المطرقة، تتنقّل بين الهمس والتوهّج، وتستبدل الصخب بالتأمل.
تغزل كلماتها بخيوط من نور ووجع، وتمنح الأشياء صوتها الداخلي دون أن تُفقدها سكينتها.
في قصيدتها (هدير البحر) تقول:
( هذا البحر يغرقني
أغرقه في جوفي،
به أركب صهوة
المجازات،
استعير الفجوات
أقتحم خلوة العباب…)
في هذه المقاطع، يتحوّل البحر من عنصرٍ طبيعي إلى رمزٍ كوني للتجدد والانبعاث.
هو المرآة التي تتأمل فيها الذات عمقها، والمجاز الذي تتطهّر عبره من رماد الصمت.
اللغة هنا لا تكتفي بالتصوير، بل تفتح منافذ للعبور إلى ما وراء الصورة: إلى المعنى الذي يشتعل في الخفاء.
خديجة بوعلي تمارس نوعًا من (التصوّف اللغوي)؛ فالكلمة عندها لا تحيل على المعجم، بل على النبض.
هي تنحت اللغة كما ينحت العاشق ملامح الحضور في الغياب، لتصنع من البساطة كونًا من الدلالات المضمّخة بالشفافية.
المكان والهوية: الجبل والبحر بوصفهما ذاكرة الوجود
يحضر المكان في شعر بوعلي حضور الكائن الحيّ، لا الخلفية، فهو ليس فضاءً ماديًا، بل ذاكرة ووجدان ووشمٌ على جلد الحنين.
تكتب عن البحر والجبل كما يكتب القلب عن نفسه، فهما رمزان للحياة والمقاومة، للثبات والتحول، للأنوثة حين تتجسد في طهرها الأول.
في نصها (يرممني الرذاذ) تقول:
(هذا البحر يغازلني
يرممني الرذاذ،
يعيد مراياي سيرتها الأولى،
يفتح القعر على المصراعين،
رذاذه يلثم شفاه بسمات ضائعة…)
هنا يتحول البحر إلى طقس تطهيري، يعيد تشكيل الذات من رمادها.
الماء في شعرها ليس فقط حضورًا فيزيائيًا، بل رمزٌ للعودة إلى الأصل الأول، إلى النقاء المفقود.
وبين رذاذ البحر وصمت الجبل تنسج الشاعرة خيط انتمائها إلى الذاكرة الجماعية، حيث تصبح خنيفرة ليست مدينة فحسب، بل رحمًا للهوية، وجذرًا للكينونة.
الذات الشاعرة: (أنا) تتطهّر بالوجع
تكتب خديجة بوعلي الأنوثة بوصفها حالة وعي لا هوية بيولوجية. أنوثتها لا تصرخ، بل تُنصت؛ لا تهاجم، بل تتسامى. إنها الذات التي تُنضجها الخسارات، وتُعلّمها الريح أن تقف رغم الانكسار.
في قصيدتها (إلى أين تأخذني الأنهار السريعة الجريان) تقول:
(أغلق الصدر بدبابيس اللامبالاة،
أختارها بإحكام،
أختار التي لا يهزمها صدأ الحنين…)
هنا نلمس شاعرة متميزة متصالحة مع وجعها، شاعرة لا تتبرأ من الألم بل تُروّضه.
إنها شاعرة تقيم في المسافة بين الاحتراق والسكينة، بين الانطفاء والبدء من جديد.
ومن رماد التجربة تنبثق القصيدة: موقفًا فلسفيًا من الوجود أكثر من كونها بوحًا شخصيًا.
الزمن والحنين: الغياب بوصفه ضوءًا داخليًا
الزمن عند خديجة بوعلي ليس خطًا يمتد، بل موجة تتردد في الذاكرة. تعيش اللحظة لا لتسجنها، بل لتفلتها في قصيدةٍ تفتح أبواب الغياب على النور.
في قصيدتها (أعود من الموت لأحيا) تقول:
(يحدث أن أتوه عني،
أغيب في ردهات ملتوية،
أموت قليلا…
أعود لأراود الحياة عن نورها…)
هنا تغدو العودة من الموت استعارة للوعي والبعث الداخلي. فالموت ليس نهاية، بل عبور نحو حياةٍ أصفى وأعمق.
القصيدة ليست رثاءً للذات بل احتفاءٌ بها وهي تنهض من الركام، لتؤكّد أن الحنين ليس ضعفًا، بل شكلاً من أشكال المقاومة الوجدانية.
البعد القيمي والجمالي: الأخلاق في ثوب الجمال..
في شعر خديجة بوعلي يتجلّى البعد الأخلاقي كوميض داخلي لا شعار خارجي. قصيدتها تمارس الأخلاق دون أن ترفعها شعارًا؛ لأنها تكتب بالصدق، وتؤمن أن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن نقاء الروح.
في قصيدتها: (لا أحب الآفلين) تقول:
(أنا لا أحب الآفلين،
يكبحون جماح النور،
يفتتون السكون…)
هذا المقطع ليس مجرد نفي للغياب، بل بيان وجودي ضد الانطفاء، ضد أولئك الذين يساكنون الظلّ ويرفضون المواجهة.
فيه تتجلّى الشاعرة كضميرٍ إنسانيّ يقاوم البلادة والخذلان، ويؤمن بأن الضوء موقفٌ أخلاقي قبل أن يكون جماليًا.
خاتمة
إن تجربة خديجة بوعلي ليست مجرّد كتابة شعرية، بل مشروع روحي وجمالي يفتّش عن الإنسان داخل اللغة، وعن اللغة داخل الوجدان.
من البحر إلى الجبل، من الغياب إلى الحضور، من الحنين إلى البعث، تسافر الشاعرة في تضاريس الذات لتعيد للشعر صفاءه الأول، حين كان ابتهالًا للحياة ومساءلة للوجود.
في قصائدها يلتقي الماء بالنار، واليوميّ بالمطلق، والشعرية بالحكمة، في نسيج لغوي يتنفس صدق التجربة وصفاء التأمل.
إنها تكتب لتقول:
إن الشعر ما زال ممكنًا،
ما دامت الروح قادرة على أن ترى في الوجع جمالًا، وفي الغياب ضوءًا، وفي الكلمة خلاصًا.
