✍️ بقلم: نصيرة بنيوال / جريدة أرض بلادي
وجدة – 6 نونبر 2025
باسمي واسم طاقم جريدة أرض بلادي، أرفع إلى المقام العالي بالله، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، وإلى الأسرة الملكية الشريفة، وإلى الشعب المغربي قاطبة، أسمى عبارات التهاني والتبريكات وأكاليل المحبة والولاء، بمناسبة عيد المسيرة الخضراء المجيدة — هذه الذكرى الخالدة التي تجسد عبقرية ملك، ووحدة شعب، و ملحمة وطن.
وبهذه المناسبة العزيزة، نتضرع إلى الله العلي القدير أن يحفظ جلالته بما حفظ به الذكر الحكيم، وأن يديم عليه نعمة الصحة والعافية، وأن يبارك في ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير مولاي الحسن، ويشد أزره بشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد.
كما نترحم بخشوعٍ وإجلال على أرواح ملوكنا الأبرار: المغفور لهما محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما، وعلى شهداء الوطن الأحرار الذين قدموا أرواحهم فداء لعزة الوطن ووحدته الترابية.
وبهذه الروح الوطنية الفياضة، أهدي لقراء جريدة أرض بلادي هذا الفصل من كتابي «ذاكرة امرأة وجدية» – الجزء الأول ، تحت عنوان
الفصل السادس : الثكنة العسكرية — ملحمة الوطن

على حافة ذاكرتي تقف ثكنة شارع جيش التحرير العسكرية، لا كبنايةٍ من حجر، بل كشاهد صامت على زمن لا يغيب.
مبانٍ قرميدية متقشفة، تتنفس عبق التاريخ وتخفي خلف أسوارها العالية حكايات رجالٍ رحلوا، وبقي صدى خطاهم يهمس في ذاكرة المدينة.
لم تكن مجرد بنايةٍ عسكرية، بل كانت مرآة لحقبٍ تعاقبت على المغرب: من زمن الحماية الفرنسية إلى بزوغ فجر الاستقلال، ثم إلى المسيرة الخضراء التي وحدت الأرض والقلوب.
اسم الشارع نفسه، جيش التحرير، لم يكن مجرد لافتة حجرية، بل شهادة حية على تضحيات رجالٍ حملوا البنادق، لا للعدوان، بل للدفاع عن الكرامة والذود عن حياض الوطن.
كانت المنازل الصغيرة تؤوي الجنود وأسرهم، والكبيرة للضباط… وكل زاوية من المكان كانت تحكي قصة تضحية وصبر، محفورة في جدرانها كما في وجدان المدينة.
كان جدي يحدثنا عن تلك الأيام التي قاوم فيها المغاربة الاستعمار الفرنسي بقلوبٍ مؤمنةٍ بالنصر و لا تعرف الانكسار، و يردد دوما ، الحكمة الخالدة:
«الحرية لا تمنح، بل تنتزع.»
كان جدي يروي تاريخ الوطن يفخر و اعتزاز، و قصة نفي الملك محمد الخامس طيب الله ثراه، و الحزن الذي خيم على البلاد ، و انتفاضة الشعب بقوة حتى عاد الملك إلى وطنه يوم 16 نونبر 1955، فعادت معه البهجة إلى الوجوه، والنور إلى القلوب، والوطن إلى ذاته.
ذلك النفي الذي أراد به المستعمر أن يخمد روح الأمة، لم يزد الشعب إلا إصرارا على المقاومة. فانبثقت الخلايا الفدائية والتنظيمات السرية، وتحول الحزن إلى شرارة للتحرر، لتولد من رحم المحنة ملحمة الاستقلال.
ثم جاء المغفور له الحسن الثاني، وارث شعلة والده، فحولها إلى مسيرة خضراء، مسيرة إيمانٍ وسلام، قاد فيها ثلاثمائة وخمسين ألف مغربي ومغربية نحو الصحراء المغربية بقرآن وعلم لا بسلاح، ليقولوا للعالم أن الصحراء في مغربها و المغرب في صحرائه و الوحدة قدرنا.
ومنذ ذلك اليوم، صار حديث المسيرة خيطا مقدسا يربط الأجيال، نردده بفخر كما نردد الأناشيد الوطنية، وكأنه يسكن وجداننا منذ الأزل.
لكن، وللأسف، بعد استرجاع الأرض، ظل أعداء الوطن يسعون لتقسيمه بزرع كيان ارهابي في الصحراء.
في تلك الحقبة، كانت الثكنة العسكرية بوجدة شاهدة على وجعٍ آخر ، النواح القادم من بيوت الجنود الذين تركوا أسرهم ليدافعوا عن الجنوب المغربي.
كنت أسمع بكاء النساء ونشيج الأطفال، فأدرك أن الوطن لا يصان بالكلمات فقط، بل بالدموع والتضحيات أيضا.
كانت الثكنة، في تلك اللحظات، صورة مكثفة للوطن كله: حزن وفخر، فراق ووعد بالبقاء.
ومضت السنوات، وتبدلت الملامح، واختفت الثكنة العسكرية القديمة، وقام مكانها مشروع سكنيّ حديث.
ومع اختفائها، شعرت بتناقض غريبٍ يسكنني: فرح لأن مدينتي محت أثر قدم المستعمر، وحزنٌ لأن ذلك الأثر كان يحمل أيضا جزءا من ذاكرتنا الجماعية.
لقد اندثرت الجدران، لكن بقيت الروح. فآثار الاستعمار محيت، أما أثر التضحية والوفاء فظل راسخا لا يمحوه الزمن.
واليوم، ونحن في عهد الملك محمد السادس نصره الله، تستمر المسيرة — ولكن بصورٍ مختلفة ؛
لم تعد مسيرة الرمال والقرآن، بل مسيرة البناء والتنمية والدبلوماسية الهادئة التي جعلت العالم يعترف بمغربية الصحراء يوم 31 أكتوبر 2025.
إنه فتح جديد وتتويج لملحمة طويلة بدأت بجيش التحرير، وتواصلت بالمسيرة الخضراء، وأزهرت بحكمة ملك آمن بأن قوة الوطن في وحدته.
لم تعد الثكنة موجودة، لكنني كلما مررت من هناك، أسمع في ذاكرتي همس جدرانها يقول:
«إن الأوطان لا تبنى بالحجارة وحدها، بل بالإيمان الذي يسكن أرواح أبنائها، وبالتضحيات التي تورّثها الأجيال للأجيال.»

حفظ الله وطننا العزيز، وأدام على المغرب نعمة الأمن والوحدة والعزة تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.
