الذات والآخر .. مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-
مصطفى لغتيري-

ترتبط الذات بالآخر ارتباطا وثيقا وجدليا، حتى أن هناك من يعتبر وجود الآخر ضرورة حتمية لوجود الذات، فإذا كان سارتر مثلا قد اعتبر الآخر جحيما، انطلاقا من طرحه الوجودي الذي له ما يبرره فلسفيا استنادا إلى الفلسفة الوجودية، التي كان سارتر أبرز ممثليها، فإن مفكرين آخرين اعتبروا الآخر نعيما للذات ومكملا لوجودها، حتى أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك ليزعموا أننا لا يمكننا تعريف الذات دون ربطها بالآخر، حتى وإن كان شديد الاختلاف عنها إلى حدود التناقض، وقديما قيل – ولو في سياق مختلف-” بضدها تعرف الأشياء”.
الآخر هو كل مختلف عنا أو مغاير لنا أو منفصل عنا، انطلاقا من أقرب شخص لنا إلى أبعد شخص عنا.. الآخر هو المختلف عنا في الجنس واللغة والثقافة والدين والعرق وما إلى ذلك، وقد يكون هذا الآخر واقعا معاشا، أو كائنا متخيلا فقط، فقد أثبتت العلوم الانسانية والاجتماعيية الحديثة أن أغلب تمثلاتنا عن الآخر هي مجرد صورة نكونها عنه انطلاقا من تراكمات ثقافية معينة، وبفعل تأثير وسائل الإعلام، وقد تشط تمثلاتنا عنه بالخيال بعيدا لتجعل هذا الآخر كائنا سرياليا لا علاقة له البتة بكيانه الخاص الواقعي. ولعل هذه الصورة هي التي تدفعنا إلى كره الآخر أو احتقاره أو عدم الاعتراف بوجوده أصلا، فمثلا يكفي أن نتحدث عن الإفريقي مثلا لترتسم في أذهاننا صورة معينة، تتسم – في الغالب- بالتخلف والفقر والجوع، وحين نتحدث عن الأمريكي فإن الصورة التي تمثل في أذهانها عنه تختزل في ذلك الشخص العنيف المعتد بقوته، والذي يسعى إلى السيطرة على العالم، بما يتطابق مع صورة راعي البقر ذائعة الصيت، فيما تختزل صورة اليهودي في ذلك الإنسان الجشع، الذي يسعى إلى اقتراف الشرور بلا هوادة، وكذلك بالمثل فصورة العربي التي تسيطر على العقلية الغربية تتمثل في كائن ينتصر لغريزته الحيوانية، خاصة فيما يتعلق بالشره للجنس و للطعام مثلا.
فهل هذه الصور المتخيلة صحيحة؟ طبعا لا ، إنها فقط صور في غالبها إيديولوجية، نسعى من خلالها إلى تبرير كرهنا للآخر و استغلاله إن أمكن، أو محوه من الوجود إن وجدنا إلى ذلك سبيلا.
أما واقعيا، فالحقيقة أو جزء منها تتمثل في أن هذا الآخر ليس على نمط واحد، فهو متنوع كما نحن متنوعون، ففيه الخير والشرير، والقوي والضعيف، والمتحضر والمتوحش، والغني والفقير، فأفراده غير منسجمين كما يصور لنا خيالنا الكسلان، الذي يسعى إلى الاختزال وسجن الناس في صور نمطية معينة، قد تريحه من بذل الجهد الفكري المطلوب، فحين أتحدث عن الأمريكي مثلا، فمن الصعب أن أضع عالما مفكرا يسعى إلى تطوير الفكر الإنساني ويناضل من أجل حق الشعوب في التحرر والحياة الكريمة ك “نعوم تشومسكي” في سلة واحدة مع سياسي متشبع بأفكار اليمين المتطرف، الذي يحن إلى الهيمنة الامبريالية ك”بوش الصغير”.
لكل ذلك يتعين أن نتمهل في إطلاق الأحكام المسبقة، التي للأسف تأسر أذهاننا وتسيطر عليها، فالأفراد -أينما كانوا- مختلفون عن بعضهم البعض، والمجتمعات تتكون من خليط غير متجانس من البشر، وأن الصراع بين فئات مجتمع معين قد يكون أقوى وأشد من صراعها مع فئات مجتمع آخر، لذلك فأحكامنا يجب أن تتميز بالتواضع والنسبية، وعدم الانسياق مع الأحكام المطلقة، التي هي نتيجة إرث ثقافي ومعرفي، ترسخ لدينا بتأثير من العصور الخوالي، ولقد أفادني في هذا الصدد، أقصد محاولة التخلص من أحكام القيمة المطلقة وتعميمها، زيارة الكثير من الأصدقاء العرب إلى المغرب، فإنهم غالبا ما يأتون محملين بصورة نمطية عن البلد مخالفة تماما للواقع، لكنهم سرعان ما يعترفون أنهم بحق اندهشوا بأن الأمور مختلفة تماما، حتى أن منهم من تمنى لو يقيم نهائيا في هذا البلد، الذي كان يحمل عنه تصورا خاطئا بالمقارنة طبعا بالأوضاع في بلدانهم، أما إذا قارنا أوضاعنا بأمم حسمت في اختياراتها السياسية والاجتماعية لتكون في خدمة الإنسان بالدرجة الأولى، وسعت لترسيخها على أرض الواقع، فإننا بالتأكيد سنخجل من المقارنة.
ومن بين المستملحات في هذا الأمر أن صديقة أوربية اعترفت لي أنها كانت تتوقع عند وضع قدميها في المغرب أن تحاصرها الجمال من كل جانب، وأن الناس يعيشون في الخيام، تشاركهم دوابهم ومواشيهم نفس السكن، متأثرة في ذلك بصورة نمطية روجتها السينما الغربية عن بلدنا.
فلنقبل الآخر وليكن موقفنا منه مبنيا على الوقائع و الأحداث والتفكير العميق، وليس على تمثلات خيالية غالبا ما تكون غير سليمة، فهي ليست سوى وليدة استيهامات لا علاقة لها بالواقع.