الشاعر… ذاك الرائي سليل الأساطير وصانعها

جريدة أرض بلادي -بقلم الأديب مصطفى لغتيري-

بحكم ماهيته ورمزيته سعى الشعر دوما كمنتج للمعنى إلى بناء أسطورته الخاصة، وهو في ذلك يتماهى مع عمق كينونته، التي اكتسبها عبر العصور والأزمنة، فالشعر من حيث العمق كشف وتنبؤ ورؤيا، كما صرح بذلك كثير من النقاد والمبدعين عربيا وعالميا، أولئك الذين فهموا بعمق ماهية الشعر ووظيفته، وبالمقــابل ليست الأسطورة سوى إنتاج فكري إنساني حاول تقديم أجوبة عميقة لأسئلة شغلت الإنسان وما زالت تشغله، من قبيل المصير والموت والغاية من الوجود، وهلم انشغالات فلسفية ونفسية ووجودية.

وإذا كان الشعر ضربا من الأسطورة في أحد مستويات الفهم والتأويل، فإن الشاعر- من حيث العمق- ليس سوى ذلك الرائي، الذي يشكل الأسطورة، في اتجاهين: أسطورته الخاصة وأسطورة الشعر العامة.

ومن المعلوم أن الشعراء وظفوا الأسطورة وتعايشوا معها بشكل متفاوت عبر العصور، ففي فترة معينة وظفوها توظيفا خارجيا، وذلك بذكر أسمائها وأسماء أبطالها، كما نجد في شعر أحمد شوقي مثلا، الذي لا نعدم ذكرا لبعض الأساطير في شعره، والشيء نفسه نلاحظه لدى الشعراء الرومانسيين الذين أعقبوا زمنيا مدرسة البعث في الشعر العربي، فتجلت الأسطورة في أشعارهم بشكل يكاد يقتصر على أسماء الأساطير وأبطالها، ما يعني أن توظيفهم لها ظل يلامس السطح فقط، من دون التوغل في نسغ الشعر والأسطورة معا، لكن الأمر سيتغير جذريا مع هبوب رياح الحداثة، التي مدت الشعر العربي بحقنة تجديدية لا غبار عليها، فأصبح توظيف الأسطورة أكثر عمقا، من خلال جعلها جزءا من بنية القصيدة الداخلية، أو محاولة اللجوء إلى بناء القصيدة على منوال الأسطورة حذو النعل بالنعل، حتى أن القارئ يمكنه أن يشعر بـأن الشاعر ينتج الأسطورة الموظفة لأول مرة، أو على الأقل من خلال الاتكاء على آلية التناص، عبر امتصاص النص الشعري لتفاصيل الأسطورة، كما فعل الشاعر بدر شاكر السياب والشاعر صلاح عبد الصبور وغيرهما. ومع مرور الزمن، خاصة مع بروز تيار ما بعد الحداثة، التي لا تعني من حيث الدلالة الاصطلاحية سوى حركة فكرية أتت كنقيض للحداثة، وانتصرت للأطروحات الفكرية التي أهملتها الحداثة واعتبرتها غير ذي شأن، بما يعني الانتصار للهامش والمهمش، ونبذ المركزية الأوروبية في التفكير والثقافة، والاهتمام بالمقابل بثقافات الشعوب المختلفة عبر العالم، حتى تلك التي كانت تعتبر في عرف البعض بدائية، كما أنها حرضت الإنسان على النفور من السرديات الكبرى مقابل إيلاء الاهتمام للسرديات الصغرى، بما يعني تبخيسا للإيديولوجيات السيارة و»الأفكار الكبرى» والتاريخ الرسمي الذي جعل من تاريخ أوروبا قاعدة ومعيارا للتاريخ والحضارة الإنسانيين.

في ظل هذا التصور الجديد للفكر الإنساني، تملك الشاعر طموح مشروع لإعادة بناء الأسطورة مستنيرا بتصوره الخاص للذات والعالم، بل وللفن كذلك، على ضوء التمرد الذي قاده فلاسفة كبار وعلماء الأنثربولوجيا على «العقلانية» التي أضحت أيديولوجية المنتصر والمهيمن، فغدت بذلك وسيلة لإخضاع الشعوب والقضاء على الاختلاف والتنوع، والتبشير بالعولمة وتنميط الفكر والسلوك والثقافة، ومن هؤلاء المفكرين ميشيل فوكو وجاك ديريدا وكلود ليفي ستراوس.

وغني عن الذكر أن الأساطير التي خضعت للتوظيف أو التماهي معها من طرف الشعراء تتنوع حسب ثقافة الشعراء وميولاتهم الفكرية والثقافية والعاطفية، فمنهم من انكب على الأساطير العربية كأسطورة السندباد وشهرزاد، التي تتوفر، كما ذكر محمد غنيمي هلال في كتابه «الأدب المقارن»، على بعد تاريخي واجتماعي وسياسي وفكري، علاوة على ترسخها في وجدان القارئ وعقله، من خلال اطلاعه على كتاب «ألف ليلة وليلة» الشهير، لهذا نجد لها حضورا قويا في القصيدة العربية عبر العصور، وهناك من مال نحو الأسطورة البابلية والآشورية، كأسطورة جلجامش وعشتار وتموز، هذه الأساطير التي حفزت المخيلة على مدى العصور، فانتقلت من كونها أيقونات دينية إلى أيقونات شعرية، تمنح الشعر عمقا لا ريب فيه، ومنهم من ولى وجهه قبل بلاد اليونان وحضارتهم، فاستهوته أسطورة برومثيوس وسيزيف وأديسيوس، وآلهة الحب والخمر والحرب، كما أشار إلى ذلك عبد المعطي شعراوي في كتابه «أساطير إغريقية».. فهذه الأساطير ذات البعد العالمي لابد أن تمنح قصائد الشعراء لمسة إنسانية هي في أشد الحاجة إليها، لأنها تفتح لها أفقا من التلقي والدلالة، لا يستغني عنه أي شاعر عربيا كان أو عالميا. هذا فضلا عن الرؤية العميقة التي توفرها للشعر، فالحداثة وما بعد الحداثة قطعتا مع الشعر باعتباره نظما ورصفا للكلمات، بل أصبح الشعر معهما وفي ظلهما يستحق اسمه، بما يتوفر عليه من عمق في الرؤية، وهذه الرؤية ليست في نهاية المطاف سوى الفلسفة التي تؤطر فكر الشاعر، وتحدد تصوره لذاته وللعالم من حوله، لهذا وجدنا الشاعر المعاصر أصبح مضطرا للاغتراف من الفلسفة الوجودية والتحليل النفسي والفكر النيتشوي ومدرسة العبث أو اللامعقول وغيرها من المدارس الفكرية، سعيا وراء اكتساب عمق لا بد له منه، فالقارئ الحديث والمعاصر أصبح قارئا مثقفا لن يقنع بعبارات موزونة وبقافية وروي، بل يطلب من الشاعر أن يكون أكثر عمقا في الكتابة، وكأنه بذلك يمثل دور كاتب الأساطير أو الكاهن في العصر الحديث، من خلال إنتاج المعنى الذي يحاول قدر المستطاع أن يزيح الغموض عن العالم وظواهره المركبة والمربكة في الآن ذاته، كما أن الأسطورة ساهمت بشكل فعال في تحقيق درامية القصيدة من خلال إبعاد شبح الغنائية، التي ليست سوى طغيان الذاتية على جميل القول أي الشعر، والمقصود طبعا هيمنة ذات الشاعر وصوته الوحيد على القصيدة، فتصبح نتيجة لذلك مجرد بوح وشكوى وأنين، يسيء للقصيدة والشاعر والشعر معا.

هكذا يمكن القول بكثير من الاختزال إن الأسطورة هي سلاح الشاعر الجديد لبناء قصيدته والدفاع عنها وحمايتها من الإسفاف الذي يتهددها في كل وقت وحين، ومعلوم أنني أقصد ذلك الشاعر الرائي الذي يعتبر شعره بناء وكشفا ورؤية، وليس مجرد بوح وتنفيس عن ذات مهمومة. ولذلك فهو يسعى جاهدا إلى بناء أسطورته الخاصة، من دون أن ينسى المساهمة في أسطورتنا العامة التي تساعدنا على استجلاء المعنى الغامض للذات والوجود.