الصحة النفسية… صحة منسيّة .

الصحة النفسية… صحّة منسيّة .

بقلم: المعطي ولدالمسكين.

في الوقت الذي تُقيم فيه الدول موازناتها على الأرقام، والجداول، والصفقات، يغيب عنصر أساسي لا يقلّ قيمة ولا خطورة: الإنسان. داخل مؤسسات الدولة—وزارات، جماعات، إدارات، مصالح، مستشفيات، مراكز الأمن، التعليم، العدل—يرتع جيل كامل من الموظفين في بيئة تزداد فيها الضغوط، ويقلّ فيها الاعتراف، ويغيب فيها أي اهتمام بالصحة النفسية، وكأنّ الدولة تعتقد أن موظفيها آلات لا تنكسر ولا تتعب.

الموظف المقهور: أزمة تتوسع بصمت

الكثير من الموظفين اليوم يعملون تحت ضغط مهني قاتل:

* رؤساء متعصّبون بلا تكوين قيادي،
* بيئات مسمومة مليئة بالإهانات والتهميش،
* غياب مسارات التحفيز والترقية،
* وانعدام أي دعم نفسي رسمي.

الدولة تراقب الأرقام، لكنّها تتجاهل “الكلفة النفسية” التي يدفعها العاملون داخل إداراتها. موظفون يدخلون كل صباح وهم يحملون قلقاً مزمناً، واكتئاباً صامتاً، وتوتراً قابلاً للانفجار. بعضهم صار يتعامل مع المواطنين بعصبية لأنّ مؤسسته نفسها تعاملت معه بعنف.

مؤسسات بلا بوصلة إنسانية

أخطر ما يحدث اليوم هو أنّ العديد من الإدارات أصبحت تؤطّر عملها بـ”منطق الردع” وليس “منطق الخدمة”.
غياب الدعم النفسي جعل بعض المسؤولين يتحولون إلى متسلطين، وبعض الموظفين إلى قنابل موقوتة، يتعاملون مع المواطنين بعدوانية، ومع زملائهم بحساسية، ومع أنفسهم بانهيار داخلي.

في قطاع الصحة، تجد الممرّض المنهك نفسياً يعالج المريض المتوتر.
في قطاع الأمن، تجد الشرطي المكروف نفسياً مسؤولاً عن تهدئة الناس.
في قطاع التعليم، الأستاذ المكتئب يعلّم جيلاً كاملاً عن التفاؤل.
وفي الجماعات، الموظف المحروم من الاحترام مُطالب بخدمة المواطنين بابتسامة.

هل يمكن لموظف مُرهق، مُهان، مُحبط، أن يقدّم خدمة جيدة؟ الدولة تعرف الجواب، لكنها تفضّل الصمت.

ثقافة “خليه يطيح”: سياسة تدمير نفسي ممنهج

منظومتنا الإدارية تبني قراراتها على سياسة خطيرة:
من لم يتحمّل الضغط فليذهب أو ليمرض أو ليستقل، نحن لا نحتاج الضعفاء.
هذه ليست صرامة… بل غباء مؤسساتي.
عندما تسقط الصحة النفسية يسقط معها الانضباط، الإنتاج، الإبداع، والولاء.
وموظف محطم نفسياً، يُكلّف الدولة أضعاف ما يمكن أن يكلّفه برنامج دعم نفسي بسيط.

لماذا لا يوجد طب نفسي للمؤسسات الحكومية؟

في كل العالم تُعالج الحكومات موظفيها نفسياً قبل أن تنهار المؤسسات.
أما عندنا:
لا مراكز دعم، لا خطوط مساعدة، لا غرف استماع، لا تكوين في الذكاء العاطفي، لا تدريب للمسؤولين على القيادة الإنسانية…
بل هناك مديرون يعيشون صراعاتهم الشخصية ويفرغون عقدهم على موظفين أبرياء.

المرضى النفسيون داخل المؤسسات: ملف محظور

هناك موظفون يعانون فعلاً من اضطرابات نفسية واضحة:

* نوبات غضب،
* اكتئاب حاد،
* وسواس،
* اضطرابات سلوكية،
* عدوانية غير مبررة…

كل المؤسسات تعرف هذا الواقع. لكن ماذا تفعل؟
تتجاهل، تصمت، تغطي، تُجمّل، وكأن الأمر لا يعنيها.
والنتيجة:
تعثر إداري، صراعات شخصية، مواطنين يدفعون الثمن، وإدارة تزداد تعفنًا.

إصلاح الصحة النفسية… هو الإصلاح الحقيقي للدولة.

أي إصلاح سياسي أو إداري بدون إصلاح الصحة النفسية هو كذبة.
لا دولة قوية بدون موظف مرتاح.
ولا إنتاج بدون بيئة إنسانية.
ولا مواطن محترم بدون موظف محترم.

الدولة التي لا تعالج موظفيها نفسياً، ستدفع ثمن ذلك اقتصادياً، أمنياً، وخدماتياً.
والرأس الفاسد ليس دائماً الموظف… بل النظام الذي يتركه ينهار دون أن يمدّ له يداً.

إن أرادت الدولة أن تُنقذ ما يمكن إنقاذه فلتبدأ من هنا:
إنشاء وحدات دعم نفسي داخل كل مؤسسة حكومية،
إعادة تكوين المسؤولين،
تخفيف الضغط الإداري،
وتغيير فلسفة التعامل مع الإنسان.

لأن الموظف ليس رقماً…
بل البوابة الأولى لكرامة الدولة.

المعطي ولدالمسكين.