جريدة أرض بلادي-ليلى تجري
في المكان المعتاد كنت أنتظره على أحر من الجمر. فكرت في أنه لن يحضر هذه المرة.. لا أدري لهواجسي هذه سببا، لكنني فكرت في ذلك، وكدت أقتنع به، حتى أنني شعرت بنوع من الشحوب الداخلي، الذي لا يمكن وصفه، شحوب شعرت بانه غزا دواخلي بشكل كبير.. حتى أنني فكرت ان جسدي أصبح أصفر من الداخل يتجاوز درجة الشحوب التي اعتورتني من الخارج.. لكم أن تتخيلوا أن تصبح معدتي وقلبي وكبدي ورئتي صفراء.. ومع ذلك في وقته المحدد حضر. من بعيد رأيته. كان يمشي كعادته بكثير من الوثوق.. ابتسامة خفيفة تسللت إلى شفتي. وإحساس ناعم داعب قلبي، قد عوضني عما شعرت به قبل حين. كان يعجبني كثيرا ان أراه من بعيد واقول في نفسي” هذا الرجل لي وحدي”.
حقيقة لا انكر أنني كنت قاسية معه في الفترة الأخيرة.. كثيرة التذمر كنت، حتى شعرت بانني سأفقده إلى الأبد.. لم أعد أعرف نفسي حقيقة، ففي الوقت الذي ارغب في تملكه بكل قوة، أجد نفسي أتصرف تصرفات طائشة، تجعله يكرهني، وربما يأتي يوم لن يتحمل وجودي إلى جانبه.. أصبحت كثيرة الشكوى والشك.. أطارده بلا هوادة، حتى حولت حياته إلى جحيم لا يطاق.. اتصل به كل لحظة وحين، أفعل ذلك لأعرف اين يتواجد بالتحديد.. وكثيرا ما أطلب منه أن يتواصل معي صورة وصوتا حتى يطمئن قلبي أكثر.. وحين التقيه، أحاول جاهدة أن ألتقط اي كلمة أو تصرف مهما كان عفويا لأدينه، وكأنني مصرة على أن أظهر خطأه. شيء ما في داخل مبهم وغير واضح تماما يخبرني بأن ذلك سيجعله يسعى لإرضائي ويتجنب الوقوع في أخطاء تغضبني.
آخر لقاء كنا في مكان جميل. بذل مجهودا لكي يختاره حتى يسعدني، وبالفعل كان موفقا في ذلك إلى ابعد الحدود. ذوقه لا يعلى عليه.. أعجبني المكان، وأسعدني بهدوئه وأناقته ورومانسيته، طلبنا مشروبين، ثم أخذنا نتحدث كعشيقين حديثي عهد بالحب، فالعلاقات كما يعرف الجميع أجمل ما فيها بداياتها. هذا المكان ذكرني بالبدايات الجميلة، حين كنت اطير فرحا كلما التقيته. لا أفكر في أي شيء آخر سوى انه بجانبي.. أشتم رائحته فتسكرني وتنسيني العالم بأسره.. لكن مع مرور الزمن تمكن مني القلق، وأصبحت أشك في أنه يرغب في الابتعاد عني بطريقة ما، وأنه فقط يبحث عن سبب مقنع يرضي ضميره، ثم لا يلتفت إلي نهائيا..
المنتزه الجميل الذي حللنا به أسعدني جدا، وجعلني افكر في حبه لي، هذا الحب الذي يشبه جمال هذا المكان وروعته، لكن سرعان ما انقلبت فرحتي به تعاسة، حين جال بذهني فجأة أنه يعرف هذا المكان سابقا، وبأنه يمكن أن يكون قد أحضر له امرأة غيري..
كدت أجن من الغيرة. ضبطت نفسي قليلا، لكن ذلك أكبر من قدرتي على التحمل، إذ سرعان ما انفجرت غاضبة.. لم أعد قادرة على الصبر اكثر. شيء ما في قلبي يؤلمني.. نار متأججة تأكل دواخلي.
في لحظة ما زينت شفتي بابتسامة معبرة، ثم قلت له:
– لدي سؤال وأرجو أن تصدقني القول.
يبدو أن كلامي فاجأه، او بالأحرى لم يفاجئه إذ رد علي:
– ستبدئين من جديد.. نعم سأكون صادقا معك .. تفضلي.
اقتربت منه أكثر ثم سالته:
– هل أحضرت امرأة غيري سابقا إلى هذا المكان؟
بدأت سحنته تتغير.. أخذ الغضب يطل من عينيه. نظر إلى نظرة حانقة ثم قال:
– ما دمت مصرة على إفساد كل شيء جميل.. نعم أعترف.. كل يوم أحضر امرأة إلى هنا.
إجابته الساخرة أحرجتني، فتداركت قائلة:
– لا تغضب رجاء.. فقط أمازحك.
لكنني كنت قد افسدت كل شيء.. لاذ بصمته المعتاد حين يكون غاضبا.. ثم بعد دقائق معدودة طلب مني المغادرة.. حاولت ثنيه عن قراره.. لكنه عنيد.. حين يغضب يصبح كحصان جامح لا يمكن التحكم فيه.. عضضت على أصابع الندم.. غادرنا المكان، ولم أتمكن من امتصاص غضبه بشكل كامل رغم توسلاتي واعتذاري.
هاهو قادم نحوي.. لا يتغير فيه شيء.. في نفسي قلت” ياه كم أحبه.. سأجن لو فقدته” وصل إلى المكان فعانقته.. ثم مضينا في طريقنا.. سألته أين الوجهة فقال:
– نتسكع قليلا.
أعجبتني الفكرة فرددت عليه:
– لم لا .. لم نتسكع من زمن بعيد. منذ البدايات الجميلة.
التفت إلي وعقب قائلا:
– ماذا تقصدين؟
ارتبكت قليلا.. بسرعة غيرت وجهة الكلام نحو موضوع أخر:
– حقيقة أحن إلى الشاطئ.. مرت مدة طويلة لم تلامس قدماي رماله الناعمة.
تجاهل ملاحظته السابقة، لم يصر عليها، ثم استدرك قائلا:
– نعم معك حق.. فلنذهب إلى هناك.
على الشاطئ كان الجو رائعا.. المويجات الصغير تتكسر على الرمال الناعمة.. تمرر أكفها اللامرئية عليها، فتصبح أكثر استواء، مخلفات خطوطا رفيعة يشكلها الزبد المتلاشي.. مشينا هناك بفرح.. نزعت حذائي واستمتعت بالسير حافية.. بين فينة وأخرى أغوص بقدمي في المياه الباردة. والوح له براحتي، وهو يمشي محاذرا من المياه.. كان على الشاطئ بكامل هندامه.. عيناه تحضنان هيأتي من بعيد.. لا يكاد يبعد بصره عني.. حين ألوح له بيدي يرد بابتسامة واسعة.. من بعيد رأيت كلبا قادما في اتجاهي، فغادرت المياه والتحقت به. خوفي من الكلاب لا يوازيه خوف.. أرتعب لقربها مني.. بجانبه أشعر بالحماية.. أمسكني من يدي ومضينا.. كان الشاطئ غاصا بالمصطافين نساء وجالا.. وكنا نحن في ذلك المكان وكأن لا أحد غيرنا هناك.. سعيدين ببعض كنا، بدا ذلك واضحا على وجوهنا وحركاتنا ونفسيتينا. لكنني كالعادة لا يمكن أن يهدأ لي بال.. لا بد أن افسد كل شيء وإلا فلست أنا.. لا بد أن أبقى وفية لهوايتي المفضلة.. إفساد اللحظات الجميلة.. في لحظة ما التفت نحوه. وقلت له:
– طبعا حبيبي لا يزعجك وجودي.
وكأن نورا ما انطفا في حضن عينيه.. تغيرت نظرته إلي فجأة وقال:
– ماذا تقصدين؟
وكأنني لست أنا من يتحدث.. بالتأكيد امرأة أخرى تتحدث نيابة عني.. لأنني لا يمكن أن أكون بهذا الشكل واتحدث بهذا الكلام.. حاولت منع نفسي من الحديث لكنني لم أستطع.، قلت له:
– أقصد لو كنت وحدك لاستمتعت أكثر.. لقد لا حظت كيف تنظر الفتيات إليك.
جن جنونه.. بدا ذلك على سحنته. نظر إلي محبطا ثم قال:
– حقا لا فائدة.
حين قال ذلك اقتربت منه أكثر وقلت له:
– لم أقصد حبيبي .. فقط أمازحك. لكن رجاء صارحني. هل حقا لا يزعجك حضوري؟
لحظتها غير وجهته. ومضى تاركا الشاطئ. نحو أقرب ممر أسفلتي.. يمشي بخطوات واسعة، وأنا كالحمقى أتبعه باذلة الجهد لألحق به، في منظر ساخر بلا شك. كنت أنادي اسمه بإلحاح، وأرجوه أن يتوقف على السير حتى أستطيع ان اعتذر له وأحضنه وامسح سحابة الكآبة التي علت وجهه بسببي مرة أخرى.