سوق السبّاط …بقلم الزهراء وزّيكٌ

جريدة أرض بلادي-هيئة التحرير-

انقضت الصلاة، انسلّ يوسف من بين المصلين وهو يذرع صحن الجامع نحو الخارج. أصوات المتظاهرين اختلطت بالدعاء ينساب من المآذن حانيا عذبا. انحنى يتفقّد خيوط حذائه الرياضي ثم انطلق يعبر الشارع. على الرصيف المقابل لمح رفاقه يتدربون على بعض الشعارات ليفتتحوا بها المظاهرة .

-اليوم الجمعة سيكون مميزا وستنجح المظاهرات، دون شك سينضم الينا المصلون.

هكذا حدّث يوسف نفسه وهو يحثّ الخطى نحو زملائه غير آبه بالاستنفار الكثيف للعناصر الأمنية، التي رصّت سياراتِها على طول الشارع، الذي يخترق العاصمة وداخل الأزقة المحاذية، بادل أصدقاءه بعض الكلمات واللافتات ثم انخرط معهم يردد الشعارات. لمس الوشاح حول عنقه. لاتزال رائحة عطر خفيفة تفوح منه، لقد أهدته إياه فاطمة وهي تودعه قبل أيام. أحكم لفّه في ضمة حانية. أحس بارتياح فتنهد مُطَوّلا وهو يسترجع إحدى حكايات جدته، حين أسرّت إليه أن يكون دوما على طهارة حتى لا يحتاج كثيرا من الوقت وهو يلقى وجه ربه…

ارتفع صدى الحناجر، واشتد عويل المتظاهرات. انخرط يوسف في المسيرة مع زملائه يدفعون ويتدافعون، يتقدمون ثم يرتدّون كالموج، متجهين بالحشود كالسيل نحو المبنى،

التحم جسده برفاقه يشد بعضهم بعضا وهم يقودون المسيرة. بين الفينة والأخرى يتوقف ليصرخ في وجه القوات المدجّجة بالعِصِي، اخترق صوتُه السماء ليبدّد صدى صافرات سيارات الشرطة، وفي لمح البصر وجد نفسه مشدودا الى جسد ضخم، يجره من الخلف بلطف فيبعده جانبا عن الجموع السائرة.

لم يكن يستطيع مقاومة هذه الجثة الضخمة، التي انقضّت عليه في رمشة عين، لتحشره في زاوية مبنى جانبي، يكفي أن حذاءها الأسود الضخم يجثم على صدره. كان الصوت خشنا جافا يسب ويلعن. يجره إليه تارة ويعيده أخرى ليرتطم بالجدار، فما كان من يوسف إلا أن يستجمع كل ذاك الغضب الذي يعتمل داخله ويلقيه بصقةً ثقيلة غطّت وجه خصمه، تفقدت عيناه ملامحه، جبهة عريضة تخترقها ندبة عمودية غائرة، وبصوت مخنوق همهم يوسف:

-ياه… انه شرحبيل زميل الكُتّاب في الجامع الكبير، نعم هو شرحبيل الذي لم يكن يجيد إلا الوشاية بالصغار ويحملهم على عصا الفلقة، لينال رضا الفقيه .

إنها تلك الندبة على جبين شرحبيل. ما يزال يتذكر كيف خلّص جسده الصغير من قبضته وهو يجره ليعلقه، عاد صوت الفقيه ليجلجل داخله :

-جيبو البغل علقوه.

يومها، استطاع يوسف أن يتفلّت من قبضة شرحبيل قبل أن يربطه بتلك العصا، احتمى ساعتها بلوحته التي أنقذته حين شجّ بها جبهة شرحبيل، ثم أطلق قدميه للريح تاركا حذاءه بباب الجامع.

اليوم ها هو خصمه اللدود يمسك به. أحس في لحظة أن ذاك الجسد الضخم قد انفرد به، تأكد من رأسه الكبير،. لا يمكن أن ينسى تلك الجبهة الممتدة والشجّة التي تخترقها.

تكوّم على نفسه مستسلما لهراوة هذا الوحش وركلاته ولذاكرته ينبش فيها :

– إنه هو ولا يمكن أن أتوه عنه .

حاول أن يخرج رأسه من بين ركبتيه وهو مكوّم جنب الرصيف، استرق النظر حوله. بصعوبة لمح مبنى البرلمان أمامه يتمايل كما تمايل به سقف الجامع يومها.

ما تزال الركلات تنهال على قفاه كيفما اتفق، حاول أن يجمع وشاحه يشد به موضع النزيف. تدحرج نحو الأمام قليلا، كان الدم السائل من فمه وأنفه ساخنا يتكوّر بين أسنانه. ضمّ شفتيه بقوة، محاولا أن يقف، لكن دوارا استولى على جسده فألقاه على الأرض راكعا، ضربة أخرى قوية على مؤخرته تلقي بوجهه على الإسفلت الذي ملأته دماء رفاقه، لا تزال صافرات سيارات الشرطة تعوي، الشارع تحول الى ساحة حرب بين المتظاهرين والهراوات، ارتفعت الأصوات وتعالى الصراخ والعويل، تُرفع الأجساد مكوّمةً يُلقَى بها في سيارات الشرطة، قوات الأمن تحيط بمبنى البرلمان، فلم يعد يحس بنفسه إلا كرة من الخيش يتلاعب بها شرحبيل، وككل مرة، لم يجد بُدًّا من الهروب فانفلت من قبضته بصعوبة، عَبَر راكضا زقاقا ضيقا نحو ساحة باب الأحد، محتميا بالسور القديم. اخترق باب الملّاح لاهثا، نحو زقاق غير نافذ ، لا يتذكر إلا رأسه وهو يرتطم بالأرض وسط سوق السبّاط، فإذا بالأحذية المختلفة تنهال على جسده الدامي وتتكوم فوقه كالتّل، فلم يعد يسمع إلا أصوات الباعة: -أمسكوا اللص… أمسك… أمسك ..

لحظتها تبدّى له ثغرُ جدته مبتسما في سخرية راضية ورائحة الوشاح تخترق أنفه. راحت وجوه رفاقه المتظاهرين تمر أمامه كشريط قديم، يجلسون في حلقات وسط الجامع يلتهمون بتلذذ أطباق الكسكس بالدجاج والزبيب المعسّل، وصديق الطفولة شرحبيل يقف بعيدا يرش تربة ويثبت سباطه شاهدا على طرف قبر .