جريدة أرض بلادي_لخليف ابراهيم_
علقت بذهنها بعض الذكريات، بعض شظايا أحداث عاشتها خلال حياتها الممتدة طيلة ثلاثة عقود. لم يكن لتمر فترة حتى تناوشها وكأنها تذكرها بالزمن الذي مضى لتظل مستنفرة ، على أهبة لمواجهة ما هو آت. الآن وبعدما استكملت دراستها واستقر بها المقام بعدما توظفت حاولت ان تقطع مع الماضي، على الأقل في جزئه الأليم الذي ترك فيها جرحا غائرا. ما كان ليمر يوم دون ان تتقلبها المواجع وان تتحرك فيها مشاعر الحنق. كلما انتصبت أمامها انساقت وراءها، فتفقد لحظتها السيطرة على ذاتها لتغمرها حالة انزعاج. كانت من بواعث قلقها، كلما حاولت ان تنأى بنفسها عن آلام الماضي كلما وجدت نفسها تغوص في تفاصيلها. كانت تضغط عليها، كحصان نافر حينما تعتريه نوبة هيجان فيدهس كل ما يعترض طريقه. تملكها احساس غريب. تذكرت بعض المواقف حين كان ينتابها فيما مضى، احساس ما كان لها أن تنفلت من جبروته الذي سيطر على كيانها. لكن لم يكن بنفس الحدة، حدة لم تكن كافية لاستفزازها ودفعها للتساؤل. ظنت حينها أن المسألة لا تعدو كونها من عاديات الأمور.
تتسلل ظلال الشك الى قلبها، تقتحم حياتها وتعيدها الى ماضيها الأليم، استبدت بوجدانها. حاولت أن لا تسقط في شركها، أن تطردها، لكنها لا تلبت أن تجد نفسها مطوقة بكثير من الظنون. تجدبها الى أتونها وتجد نفسها في رحلة أخرى بين الشك واليقين تئن تحث ثقل السنين. أضحت لعبة بينهما. مقدورها أن تتأرجح بين هذا وذاك مما يستنزف طاقتها الذهنية ولا يدع لها مجالا لتطوير ذاتها وللمضي قدما فيما هي مقبلة عليه من تحديات. تظل تحادث نفسها. تتبرعم في ذهنها افكار تحاول من خلالها الارتقاء نحو السمو الذاتي للانعتاق من جاذبية الكدر الذي ترفل فيه. لكن بعض التفاصيل العنيدة تسحبها الى مهاوي الخوف والشك، الى براثن القلق. استغلق عليها الأمر، فضلت حبيسة تتأرجح بين هواجس الماضي ومستقبل غامض تتبدد فيه خيوط الأمل في بحر التحديات التي تنتظرها.
بارقة تنجلي هنا تمنحها شحنة من الأمل تشحذ عزمها، تتراءى لها الحياة في ابهى صورها. تسير بنسق ألق مما يعطيها جرعة تدفعها الى وضع مخططات للمضي قدما في بناء مستقبل زاهر. ثم هناك تتكالب عليها ظروف لتدخلها في دائرة الشك وتكبلها بقيود الاحباط. تسيجها. تنكفأ على ذاتها حين تبدو لها الحياة رتيبة لا معنى لها. تقرع ذهنها أفكار آتية من زمن بعيد احتشدت في ذهنها حين كانت طفلة، لما تلقت تربية طبعتها قساوة أب وجحود الزمن، أفكار طالها البلى لكن لم يطالها النسيان، انغرست في أتون الذهن. تمنعت، تنبثقت من حيث لا تدري، ترقب اللحظة المواتية لتفرض عليها وجودها. تشكلت لديها قناعة أنها أصبحت جزأ منها تتمترس وراءَها ولن تتخلص منها أبدا، بل انها كلما صادفت موقفا صعبا اجتهدت في تحيينها لتبرير بعض المواقف.
تنكص إلى الماضي وكأنها تود تعليق الزمن. في غفلة منها، وفي اصرار لا يلين تجتر قساوته ولحظات شظف العيش التي كان ترتع في كنفه. تنجذب إلى أعماقها التي ما فتئ يتردد بداخلها صداه. كلما عاودتها هذه اللحظة زادتها ايلاما وخوفا من المستقبل. كانت ترهف السمع حولها لتلتقط نبض الحياة وتستخلص منها الدروس والعبر تعضدها في مستقبل الأيام. كانت تعتقد دائما أن ما يقع لها خارج عن ارادتها وان الآخر والظروف لهم اليد الطولى في ذلك.
في حمأة هذا الزخم الموسوم بالشد والجذب فيما يعتمل بدواخلها، بين صدى لواعج الماضي التي تطاردها وعزيمتها التي لم تفتر وان بدا الأمر عكس ذلك، حاولت الاحتماء بذاتها رغم هشاشتها . ضلت متقدة، غير هيابة، لا تلين عريكتها. أمام هذا الدفق المتوالي من الهواجس التي استقرت بدواخلها، والتي لا يكاد يخبو وهجها حثى تنبعث من جديد، سمعت صوتا يزأر في دواخلها أحدث جلجلة تردد صداها بعنف في أحشائها، وشيئا ما غير واضح المعالم يَؤُزّها للتحلل مما هي عليه، فانتفضت ترتب أفكارها، وانخرطت في بحث حثيث للقبض على الخيوط التي تمسك بتلابيب ذاتها ولضبط ايقاع هذا التجاذب والتداخل بين مشاعر متنافرة تستنزف طاقتها وتثبط عزيمتها. استنفرت كل حواسها، وغدت تجاهد نفسها وتستلهم من بعض المواقف عاشتها في الماضي وخرجت منها منتصرة، تقتبس منها نورا تستمد منه قوتها التي تذرك انه قابع هناك في ثنايا كينونتها. لم تعد تطاوع نفسها الأمارة، تمردت عليها فاندفعت بقوة، تمضي حثيثا.
لكي تقوي شكيمتها لجأت الى الذكاء العاطفي كمنظومة تعزز القدرات وتمنح امكانية قراءة المشاعر التي تكتنزها الذات وكذا مشاعر الآخرين. كانت تلك الخطوة في غاية الأهمية . قضمت كثيرا من المؤلفات تعنى بهذا الموضوع ونهلت منها، مما مكنها من اكتساب مهارات. فأصبحت من خلالها تضبط بذكاء مشاعرها عوض أن تنساق ورائها في جموح غامر. حينها انبهرت و تتعزز لديها الشعور بأن لديها ما يكفي من العزيمة لتحدي كل الصعاب وتدليلها مهما عظمت. اكتسبت مناعة لأنها أبت الانصياع لهمهمات الماضي الملحة، لمده الذي كان يجرفها كما يجرف السيل الوحل.اصبحت تلك الهواجس التي كانت تؤرقها تتهاوى كما تتهاوى قصور الرمال حين يلطمها موج البحر. تفاجأت بقدراتها النفسية، استمرأت وضعها النفسي الجديد وكأنها ولدت من جديد ، تأسفت على ما فاتها .لكنها قررت في نفسها أن لن لا تستسلم أبدا للانهزامية.