رواية : عشيقة من الجن


 

 

عشيقة من الجن

 

رواية

 

 

 

 

الكتاب:

عشيقة من الجن

تأليف:

عبد اللطيف بوهلال

الطبعة:2020

 Dépôt Légal : 2020MO1874
ISBN :    978-9920-604-12-3

جميع الحقوق محفوظة

 

 

 تم نسج أحداث هذه الرواية من وحي الواقع وأي اختلاف وعدم تشابه في الوقائع والأشخاص يبقى متعمدا من طرف الكاتب.

 

في فترة فراغ فكري مجرد من كل الكلمات، من كل العبارات، من كل التعابير ومن كل الأحاسيس، حملت فرشاتي بجهد لأرسم معالم روتين قاتل على لوحة نفسي المتمردة التي رفضت كل الألوان وعانقت منها الأسود وهي تكرهه، ذرفت الدموع بلا سكن وأنا أحاول تهدئتها بل ولبيت كل ما رغبت به، أوهمتني أنها ستخلد للنوم ففارقتها بعد أن أطفأت كل النور بداخلي، استفاقت وأنا أراقب خطواتها التي أوجعت قلبي وأمسكت بطبشورة فكري المجرد وهمت بكتابة هذه الرواية سرا عني تحت وطأة الظلام وهي لا تثقن القراءة والكتابة…فرجاء تحملوا هذه النفس الأمية والجاهلة.

 

*********

 

 

الى كل من عاش الظلم وذاق من كأسه العلقمية

الى كل سجين أهدر القضاء حقه.

الى كل جندي لم يعززه الوطن

الى كل شريف يعيش وسط اللصوص

الى كل عليل أنهكه المرض

الى كل فقير غلبه التعفف

الى روح والدي

الى ريم ودينا

الى زوجتي أول ناقدة لهذا العمل البسيط

الى زملائي بأكسيس…. وهناك حيث كنت

 

عشيقة من الجن

 

 

فَوَسۡوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ لِيُبۡدِيَ لَهُمَا مَا وُۥرِيَ عَنۡهُمَا مِن سَوۡءَٰتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَىٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنۡ هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلَّآ أَن تَكُونَا مَلَكَيۡنِ أَوۡ تَكُونَا مِنَ ٱلۡخَٰلِدِينَ ٢٠ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ ٢١

 

سورة الأعراف

 

 

******

 

 

الفصل الأول:

 

هناك من مكان قصي جدا صدح صوتها بمقت، هناك من زمان متناء جدا سلطت نظراتها برعب فهمست بخبث لمرآة يقف أمامها شاب وسيم يتزين بأرقى الملابس ويتعطر بأزكى العطور، هيئته الرجولية توقظ كل نساء القبور وتستدعي كل عزباء لتمارس رذيلة الحب، تهمس لها علها تعكس صدى صوتها اللعين كما تعكس صوت وصورة صاحبها وهو يدردش معها كل صباح ويبوح لها بما لا يستطيع البوح به لأحد.

 

همسات غادرة، تطعن صفاء ذلك الوسيم لا لشيء سوى أن له نفسا عظيمة وقلبا شاسعا في الحب، تزيد من عبارات الشر وهي تهمس راوية لمرآة خانها السمع كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ومتى؟ وكل الأسئلة الموجودة في كل لغات الكون، همست لها وصورته الأنيقة مرسومة في كل محيطها وكأنها تحدثه :

 

“انا لا أستطيع الكتمان ودفن الكلمات لا أستطيع ذلك البتة، كيف لي ان احادثك ،ان اشاركك كل شيء وانا اكرهك اكره كل شيء فيك وكل شيء فيكم معشر الانس سأصارحك يوما أني كرهتك بالأمس وأنت تلاعب إحساس انسانة كان لزاما علي ايذائها  وحين اقتربت منك اليوم دون دراية مني ووصلت الى قلبك دون رغبة مني اكتشفت انك من طينة مختلفة رأيت فيك الكثير من المبادئ ،تأثرت بشخصيتك الرائعة رغم ظروفك القاسية التي تمر بها ، والتي لا ترويها لأي شخص حتى لا تزيده حزنا وخوفا عليه من ان يصيبه الهم، انت انسان لا تريد ان تعيش على شفقة احدهم ،تابعت كل ما يتعلق بك عندما سرقت احد اوراقك الشخصية من مكتب الموارد البشرية، عموما لا بأس به بالمقارنة مع طموحك اللامحدود والذي يتحدث عنه كل من يعرفك ، كما كانت تتحدث عليه زوجتك الى حد التباهي المطلق ،سعيدة هي تلك الفتاة التي ستحظى بقلبك يوما..لا.. انه تكهن ليس الا هذا ان لم تكن مرتبطا في السر أو تواعد خليلة في الخفاء.


اذكر جيدا اول يوم لك في العمل والألف من ناحية تغييره فأنت لا تستقر في أي عمل مهما كانت مداخيله، تجسدت في صورة آدمية لأحتك بك وأحتكننك، انه يوم التحاقك كموظف جديد بهذه الوظيفة الجديدة، كان حينها الجو مطيرا فحين كان معظم العاملين بالقطاع يستعدون لحضور حفلة عمل  ما جعل الكل يقول انك نذير شؤم ،حينها شمرت همتي ووسوست للجميع بذلك، ما دامت الفتنة ستنتشر ويحل العداء وتسود الخصومة، انها اللذة في أحلى معانيها، أيدت هذه الفكرة بل ورسختها لدى العموم وأنا لا أزال أتأرجح بين كرهي لك واعجابي بك، وهي نفس الملاحظة التي عاينتها انت وبنفسك بعد مضي ثلاثة اسابيع بالضبط من عملك، كان ذلك عندما هاتفتني في مكتبي وانا أتقمص دور موظفة معك تعرف كل كواليس العمل ولا تخفى عنها خافية عن أحد أو شيء وطلبت مني حينها منحك بعض المعلومات التافهة، كنت أعرف أنه بدورك تود التقرب مني فأنا أعلم مكر الرجال الزائغة أفعالهم قبل عيونهم ،قلت  بعظمة لسانك ان بعضا من العاملين يتحاشون الكلام معك وكأنك مريض بالجدري او طائر شؤم واردفت كلامك بقهقهات كانت حينها كريهة الصوت، لم يكن أحد يتفاداك أنا من كنت أصد كل من يرغب التعرف عليك وخصوصا بنات حواء اللعينات.

بحسب معلوماتي فعمرك لا يتجاوز الأربعين سنة لا زلت شابا في مقتبل العمر وصورتك تحكي أنك خالد في الشباب، أرمل بسببي وكل هذا أعرفه، نعم أعرفه كما كنت أعرف كل شيء عن زوجتك التي تلذذت فعلا بسحق روحها اللعينة اني أود فقط قتل الشك، هوايتي المفضلة القتل، قتل أي شيء وازهاق روحه خاصة ان كانت روحا بشرية.

اهتمامي بك الذي كان ينم عن غيض وكره وانتقام وأنا أنجز مهمة قتل زوجتك أثر في بشكل مهول.

 أيها الفاتن أشم رائحة جسدك الذي يفيض بهرمون رجولة منقطع النظير، وهذا وحده يكفيني لأخطو معك نفس الخطوات التي خطوتها مع كل شخص أرغب امتلاكه، قتله، أو حتى دفعه للانتحار حيا خصوصا ان كانت ذكورته فائحة بإفراط فهذا يصيبني برغبة شديدة في ارتشافها حد الرعشة.

 سأبدأ معك بالتعارف وسأجذبك الي الى حيث لا رجعة، سأطرق باب مكتبك قبل وبعد وصولك اليه، سأغيب قليلا عن مرآتك التي تغيظني وهي تعكس صورتك بوسامة نبيكم يوسف فاستعد لهذه الجولة التي سأكسبها لا محالة”.

                             

  الفصل الثاني:

 

انتظرت وصوله بصبر نافذ بعد تأخره في قضاء مآرب الحياة اليومية، ودون أن يستشعرها بداخل مكتبه ،ولجت وكل تركيزها منصب فقط حول تلك العقدة من ربطها له وهو لا يتقن لبس ربطة عنق، الوحيدة التي كانت تتقنها له هي زوجته تلك الانسية البغيضة كما تصفها، عن تلك النظارات الشفافة التي تعكس كل زوايا المكتب وتصب الهلع في عيونها تستفسر، وعن من وضع ذاك المصحف هناك اعلى الرف والسجادة أيضا فلم يكن لهما أثر بعد دخولها الأول وقبل وصوله بدقائق تسأل، اذن هو صعب الاختراق وتخاف الاقتراب منه الان ، تخاف من الاحتراق لكن لابد من الاختراق، تجيب، ترى وبعجرفة أن ذلك سيكون شاقا لواحدة من الجن غيرها طالما أنه يعيش في خيالاته النسوية العديد من النساء التي لا وجود لهن ومن هذا الخيال ستتسلل لتصبح رائدة هؤلاء النسوة اللائي يتخيلهن الواحدة تلوى الأخرى عروسة له يقيس لهم من خلال خيال متذمر كافة أزياء دولابه التي لم يعد يرتديها، كان يقيس وسامته فقط لم يكن ينظر أبدا لحدث العرس كعرس او العروسة كواحدة يحبها.

سعت بشكل جهيد أن يقع أسيرا تحت رحمة افكارها المحفوفة بلعنة الماردين، ستخرج من مكتبه سالمة من سهام الأسئلة التي كانت تطرحها داخل أرض معركة “العزل من السلاح”  لتدخل في صورة تلك الآدمية التي تعرف عليها أول لقاء وهو يستعد لاستلام أوراق اعتماده كموظف مبيعات وتسويق، وها هو كالمعتاد شارد الذهن لا يستطيع سماع طرقاتها على باب مكتبه، تدفع باب المكتب الذي كان شبه مفتوح ،أزالت حاجزا كان لابد من تجاوزه بداية كدخان لتستطلع ما يوجد بالداخل فهي لا تطيق أبدا سماع صوت القرءان الذي اعتاد تشغيله كل صباح أينما حل وارتحل.

 

 كان دخولها المكتب، مفاجأة لم يتوقعها وهي في طلة حسناء وبهية يفوح منها طيب الأنوثة السلسبيل وبصوت عذب تنطق.

صباح الخير أستاذ سمير ….

صباح الخير آنسة خلود…

بصوت خفي تقول: يا له من موقف لعين وغبي وضعت فيه نفسي.

 

خلود تتصبب عرقا وكأن قرآنا يقرأ عليها، من هيبة هذا الاحمق بحسب لسانها وهو يقول لها آنسة فهي تردد: كيف لبشري خلق من تراب ان يعلم أني آنسة لم يطمثني بعد جني.

 

-ولكن أستاذ سمير كيف عرفت انني آنسة…

– طلتك البهية تحكي أكثر من ذلك وأناقتك الملفتة للنظر أيضا ولا خاتم في يدك هذا بديهي

– محق، محق بذلك أستاذ سمير، وهل ينطبق نفس الشيء عليك.

 

تسأله وهي تعلم كل خفاياه، تعلم كل أسراره المؤلمة، تعلم كل ما جادت به الحياة له فقد كانت يوما رسامة بارعة لحظه ونصيبه السيئين.

 

– أفكار الرجل كلها لا تتطابق مع كل نساء العالم ووضعه لخاتم لا يكون من اجل ان يشرح للناس انه مرتبط لأنه عادة يضع محبوبته في قلبه وليس في اصبعه حتى لا تسقط وتضيع منه بعد أول عملية غسل ليده بالصابون.

– عالم الغيب والشهادة -تنطقها رغما عنها -…كيف غابت عني كل هذه الأمور التي تخص عالم الرجال أستاذ سمير.

-ههه… انه عالم الرجال كما عالمكن أنتن النسوة

 

تردد صدى هذه الجملة لأكثر من مرة على مسامع خلود ونظرها منصب على نظر سمير الذي كان يتبادل معها اطراف الحديث بكل عفوية رغم ان طبعه خجول لكن بالنسبة له يتجاوز خجله الحدود عندما يتعلق الأمر بمجالس الذكور و الاناث، انه شخص خاض الكثير من المعارك الغرامية التي لازالت ندوبها بارزة على قلبه المكسور آلاف المرات دون ان يموت ولم يعد لأي انثى مكان داخل هذا القلب المنفطر، يبادلها أطراف حديث يبدع فيه ويقول ويعيد القول في قرارة نفسه أن رواد الحب أمثاله لا يرتبون أماكن الأشخاص في الوجدان بل افعالهم من تتولى ذلك، و ويسرح بمخيلة مسجونة ويظن أن خلود ربما تستطيع إيجاد مكان ولو في حيز ضيق داخل فؤاده اليتيم، فيؤكد في قرارة نفس ثانية عاشت مخاضا عاطفيا قاسيا أنه غير مستعد للارتباط مجددا بأي امرأة أو إقامة علاقة معها كيفما كان نوعها وتحت أي ظرف من الظروف، لأنه لم يعد يتذوق طعم الحياة كما السابق يحكي في صمت مطبق وبصوت جريح وسط سكون قاتم وقاتل عم المكان يسلب الرحمة والرأفة من الأرواح ان مسيرته الحالية لا تنطبق مع ما رسمه في اوج شبابه:

 

” ربما أنا رجل اختلف نوعا ما عن كل الرجال لأني احمل تقديري للمرأة دائما في قلبي، بين احساسي، وبين مشاعري، ولا أخفي صدق الكلام في حضرة كل جميلة، أستسلم لصياغة العبارات، لا أستطيع الصمود في وجه التعابير، وها صدق الكلام قد أرهقني تانية بعد أن عمد الى طرق أبواب قلب مؤصدة ضاع مفتاحها بين ثنايا أيام نحسة مضت ولاتزال في المضي مستمرة “.

 

 سمير هو ذلك النوع من الأشخاص الذي يطمح ان يبني مستقبله في دقيقة ليتفرغ لأشياء أخرى في الحياة، يحب سرعة الإنجاز وسرعة الوصول الى القمة خصوصا في العلاقات التي يكسبها منذ الجولة الأولى بسكرة لسانه السائغة الأوصاف، وما ان يصل حتى تتحول نشوة الوصول الى روتين يقتل روحه ،فهو لطالما تمنى ان يلج كلية عسكرية وان يكون الأول في دفعته ليقود جيوشا نحو الانتصار لعشقه النصر، لا لرغبته خوض المعارك التي يتحاشاها ويتجنب أسبابها، وها هو يعيش ما لم يتمناه يوما وهو يعزي نفسه ويرقد ميتا بجانبها والأول في دفعة الأموات وليس في دفعة الخريجين داخل هذا المكتب اللعين الذي يتلذذ في سجنه ويجعله حبيس أفكار الماضي ها هو يعيش في عالم مزيف ونصف العاملين معه لا يعرف حتى أسمائهم او يتظاهر بعدم معرفتها حتى لا يجعلهم أهل قيمة وشأن داخل هذا الحيز المتناهي في الصغر والذي يخطط لمغادرته والبحث عن عمل آخر، حيز شاسع جدا في أعين هذه الحسناء الضيقة التي تحاول الاقتراب منه بإغراءاتها الجسدية ونظراتها الباردة الساخنة وهي تعلم انه يجيد اللعب داخل الميدان وخارجه وقد لا تعلم مهما بلغت من الدراية انه كان ولا يزال فارسا للعديد من الحسناوات لا تعلم انه اعتزل لأنه لم يعد يطق برمجة الكلام والنطق بما ليس في القلب انه يكره اللغة المحبوسة في اللسان ويميل أشد الميل الى لغة القلوب الطاهرة والصريحة حيت يرقد الإحساس الحقيقي.

 

  بدوره يحاول الاقتراب من هذه الأنثى لاكتشاف سر نظراتها الغريبة، يرغب في الاقتراب قليلا فقط وبحذر، لكن يطمئن نفسه ويشجعها بأنه سيبتعد وسيسير مسير قطار ضوئي وسينفض غبار العشق من عليها لقدر الله وغرقت احدى قدماه في وحل الحب، لأنه لا يريد صراحة أن يعبث بمشاعر أي أنثى وهولا يزال يرقد في مصحة ماضيه يتعافى من بعض جروح الفقد واليأس التي لم تلتئم بعد.

 

خرج من قوقعة خيال سارح بلا حدود وكسر حاجز السكوت داخل المكتب بزفير المشتاق وبأنغام الأنفاس المحتاجة لمن يسقيها خمرة العشق ويذيقها من إحساس الهيام ويسافر بها الى عالم المسرات المفقود داخل دوامة الحزن والأسى فقال بتأوه:

 

– انت أنثى …. أنثى جميلة أيضا.

-جميلة …ماذا؟

-عفوا ..ولكن انا أصف فقط ما ترى عيوني.

-وماذا ترى عيونك التي فقدت صوابها على ما يبدو.

-عيوني رأت وترى من العشق ما لم يره أحد من معشر الانس والجن.

 

تنسحب خلود في صمت يغلفه غضب رجيم، وتختفي بين ممرات وأروقة المكاتب في اقل من جزء من الثانية، تبددت وكأنها سراب، تاركة سمير يعاتب نفسه ويحاسب لسانه الذي انطلق كالرصاص وشرع في المدح والتغزل حتى أصاب ما أصاب، وهو يؤمن ايمانا تجريبيا ان كل النساء لا تعشق الكلام النابع من القلب ويقر أنه سيتحمل هذه الزلة اللسانية نتيجة تهوره في الوصف وابدائه إحساسا خالصا خاليا من لكنة المجاملة، فيتجاوب مع نفسه اللوامة ويحكم عليها بالبراءة وحسن النية.

 

الفصل الثالث:

 

تعاود الهمس لمرآة سمير بعد أن حطت الرحال مجددا بغرفة سمير وبصوت تغيرت نبراته المقيتة الى نغمات بدأت قيثارة الحب تعزف حروفها النوتية دون أوتار:

 

” انا خلود جنية من عالم أسود وحالك أؤكد القول ان هذا البشري صعب الاختراق كما ذكرت …لماذا ذكر اسم “الجن” هل لديه أدنى شك أني لست آدمية أم مجرد زلة لسان ستعود عليه بالويلات، اعلمي أيتها المرآة المقرفة عندما لا يكون سمير واقفا أمامك، أننا نحن معشر الجن أول من مارس الحب فوق الأرض، أول من زرع بذوره التي اقتطفها الانسان ولم يحافظ عليها كما لم يحافظ على الأمانة التي عرضت عليه وكان بذلك ظلوما جهولا.”

 

 

 

 

هائمة في سرد واقعها الخبيث نبع صوت سمير من داخل المرآة وهو يردد:

 

-” ويلاه اين اختفت خلود لعل كلامي هذا اعتبرته تطاولا وحسبته تحرشا لا بد لي من شرح الموقف، انا حقا اريد مؤنسة لي في هذه الشركة التي اراها مقبرة للأشباح اني احتاج لبلسم مثلها يعوضني، فنظراتها الساحرة اغوتني وايقظت في إحساسا مدفونا، آه، شعرها الحريري المتموج بحر يجذبني للغوص بداخله، للكتابة على شواطئه سطورا من قصائد الغرام، أغرقني بلا شفقة بين أمواج أبت أن تعيد لي البسمة وتثأر لي من خيانة القدر، لم تستطع حتى مسح دموعي وها أنا أبكي صامتا حتى لا يسمعني الماضي وأنا الذي تعود أن يرثي حال نفسه بنفسه التي تتذكر حبيبة ترقد وحيدة تحت التراب ،تعودت أن أرثي نفسي بنفسي والدمع شلال منهمر لا ينضب ماؤه، منذ أن سرقها مني الموت في حادثة سير، آه تم آه كانت أجمل نساء الكون في نظري بطيبتها وشغفها بي، باهتمامها بي وخوفها علي، انها وشم لن يزول من مسلسل حياتي التي أصبحت قاتمة من دونها.”

 

ترخي سمعها وبشغف مستمعي أغاني سيدة الطرب العربي تشرح وتبحث في كل معاجم الانسان عن كل ما ينطقه من كلمات في وصف حبيبته فاطمة التي علمته قواعد الحب ولم تعلمه كيف يحارب الاشتياق، رمت به في أعتى سجون اللوم وأصبح سجين ذلك اليوم المشؤوم كان يتمنى ان يكون معها داخل السيارة، أن يكون فداء لها لكن القدر أبى …أراد تعذيبه، أراد أن يذيقه مرارة وألم الفراق.

 

تزيد من سرقة كل الكلمات التي ينطق بها وتلتهمها أذنها بشراهة وهو يردد بصوت خافت ممزوج بقرحة البكاء:

“فاطمة..فاطمة..فاطمة.. لم يكن خصامي معك من اجل شيء تافه ذلك اليوم كما قلتي بل كان نابعا عن غيرتي عليك لم اكن اريدك ان تذهب الى ذلك الحفل الذي أقامته صديقتك سعيدة لأجلك ودون مناسبة تستحق ذلك، صحتك حينها  لم تكن قادرة على السهر والسمر،،،لم اريدك ان تذهبي لأنك كنت في احلى صورة كنت جميلة جدا كنت اجمل من الجمال، انيقة كالمعتاد خفت حينها من ان تأكلك عيون الناس بالشارع، أصابتني غيرة على غير المعتاد حتى من ذلك العطر الذي كان يفوح منك بشدة …لا زلت اشمه كلما نطقت اسم ف…ا…ط…مـ….ة ، لم اكن اعرف انك ستزفين عروسا وسط أرواح الأموات ولم اكن اعلم انها اخر لحظة ستجمعني بك لم اعي ان اخر قبلة ستكون ختما وطابعا لنهاية حزينة..فاطمة لماذا مشاعرك تغيرت نحوي ؟لماذا لم تعد تبادلينني نفس ما أبادلك من حب ؟ لماذا هذا التغير المفاجئ؟ هل هو سحر أصابك؟… فاطمة تزورني روحك وتمسح دموعي من على كتاباتي عنك وتدفعني الى الامام تقودني الى عالم الأموات الاحياء وابحث عنك وسطهم أسال عن عنوانك إني أزور قبرك يوميا حتى في احلامي أزورها لأسقي ورود حبنا بماء الحزن … حبيبتي فاطمة لم تعد أقراص النوم التي اغرقني بها طبيبي النفساني تقودني الى السرير للخلود للنوم لم تعد بإمكانها استيفاء الغرض.. فأين يباع النوم؟ وأين تشترى السعادة؟ فكرت مرارا وتكرارا في الانتحار فخفت ان لا التقي معك في الجنة في ذلك المرتع الأخضر كما أتخيله وانت تلبسين ثيابا من سندس وإستبرق من ذهب..فاطمة كيف لي ان اواجه الحياة وبين احضاني طفلين لم يبلغا الحلم بعد؟ كيف لي أن أخبرهما ان حبيبتهما الغالية علي وعليهم فارقت الحياة؟ كيف لي ان اشرح ذلك وقولي لهم دائما انك في سفر طويل وستعودين غدا…. متى غدا سيأتي؟ كرهت هذا السيناريو وكرهت التمثيل، كرهت ان أبلغهم سلامك الوهمي وقبلاتك الزائفة، سئمت هذه الحياة لكني …مجبر على أي شيء”.

 

سمير وفي لحظة استفاقة من غيبوبة حزنه التي قلبت عليه المواجع وذكرته بحبيبة قلبه النائمة في قبور عشقه الدفينة، يلعن دائرة عمله بعد ان اكتشف أن لا أحد ألقى عليه التحية ليخبره بساعة الانصراف فالكل مبرمج على وقت المغادرة وغير منضبط على وقت الدخول وكأن العمل وحش مخيف تهرب منه طرائد البشر التي لا تقدسه وتقدره عبادة مأجور عليها.

 

خلود لم تكفي بسماع ما تقاطر به لسانه من فيض الكلمات بل ودت أن ترقب المشهد صوتا وصورة واطلعت عن كتب على كل تصرفات سمير بعد أن هشمت كل زجاج المرآة وهي تسمعه يرثي حبيبته فاطمة.

 

خلود وجدت نفسها ضعيفة نوعا ما من اختراق ذاك الجسد المحكوم عليه بالحزن لم تكن تعلم مكنوناته كانت تعرف انه حزين فقط وانه شرب من كأس علقميه في حياته التي تريد الاستحواذ عليها، لقد ظنت ان الامر يتعلق فقط ببعض الوساوس والألاعيب الشيطانية وسيكون على طبق من ذهب هدية لشيطنتها ، هذا هو غرور المردة والكبرياء المفرط للجن والشياطين هذا سبب خروجهم من رحمة الله تبارك وتعالى فقد كانت سجدة واحدة قصيرة في الزمن كافية لإنهاء كل هذه الحرب القائمة بين الشيطان -ككلمة موحدة لباقي جنسه – وبني آدم – ككلمة موحدة لبني جنسه -.

 

ها هي وبمراقبتها اللصيقة له تحفظ ذوقه وتحاكي خطواته في كل شيء أصبحت تعلم الان حتى مقدار السكر الذي يضيفه في فنجان قهوته ذاك الذي قرأته في تقليد معاكس لما قرأته قارئة فنجان عبد الحليم حافظ، فكلامه عن فاطمة أصابها بالغيض ودفع بها الى تسريع وثيرة الاستحواذ على روحه أو بالأحرى على فحولته التي جذبتها بعد عودتها من مكان قصي جدا من زمان متناء جدا، أعادتها بعد أن ألحقت الأذى بزوجته، أعادتها من حيث أدت قسم الايذاء فوق كتاب الجن الأسود المذموم وهو اشد قسم وأخبث التزام يمكن لجنية ان تلتزم به لإلحاق الشر والمصائب واسقاطها على كل آدمي.

اعادتها وجعلتها تخل بالقسم وتنقض العهد والميثاق لتصبح مطرودة من عالم الجن وملعونة الى الابد وروحها الشريرة مطلوبة للعدالة الشيطانية لخرقها قوانين ملوك الجن انها تتحدث بشكل صارخ كل الأنظمة وكل الشرائع الشيطانية أحدثت شرخا في المنهج الذي خطه ابليس اللعين منذ نزوله الأرض مطرودا من الرحمة الإلهية، غيرت مفهوم حياة الجن بين الواقع والخيال، بين الحقيقة ودروب المنطق بعد ان استطاع كيان بشري جذب اعجابها به وسرقة إحساس من جنية بعيدة كل البعد عن عالمه.

 

انه الحب أيها الناس يجمع بين اثنين ويمكن ان يفرق بين اثنين ليس بالضرورة ان يكون من تحب من بني جنسك هذه كلها تفاهات باستطاعتنا ان نحب من نريد، متى نريد، اننا احرار في الحب ولسنا عبيدا لآلهة الحب ايروس والآلهة فينوس التي تفرض نظاما رتيبا في عادات الحب، انه باستطاعتنا كسر القيود وتجاوز كل هذه المعتقدات التي تبقى مختومة بطابع ملغوم وغير مفهوم، تبقى مرتبطة باعتقاد جاهل لا يعطي للحب حقه والقيمة التي وجد لأجلها، انه لم تخلق القلوب عبثا ولم يكن هناك تجاذب وتناغم في الأرواح عبثا وها نحن نجد انفسنا دائما متعلقين بأشياء ما عهدنا أنفسنا يوما انها ستتعلق بها ،نحن لسنا امام نظريات رياضية او فيزيائية اننا امام واقع لا قبول فيه لوضع احتمالات أو الخلط والمناقشة، انه الإحساس، قائد مركبة القلب والروح والوجدان

 

اعتاد سمير الدخول الى منزله مبكرا وهو يدخله الان في ساعة متأخرة من الليل الكل نيام يقبل جبين أبنائه تحت بصيص نظرات والدته التي ادعت النوم وبقي جفنها بدون اسدال حتى ولج المنزل فلذت كبدها المحترقة، تأخر كان سببه هوس الحب الذي بدأ يتراقص حول قلبه فجعله يتخبط بين ذكريات ماضيه مجددا مع زوجته وبين هذا العشق الأسود الذي طرق بابه وقرع كل الأجراس دون كلل وملل وقلب عليه الاحزان الممزوجة بالشوق والفرح. تأخر وهو يبحث عن جواب صريح من نفسه التي خجلت منه وتهربت من مصارحته بأنه معجب بخلود.

 

يستمر واقع الأسئلة المرير بالانهيال عليه كلما سافر ذهابا وايابا بين أركان غرفته محتسيا كوبه العاشر من القهوة في هذا اليوم الحافل والمثير، انصهر بين تلك الأركان ونسج أفلاما وقصصا لم يتوصل بها لأي هدف بل اوصلته وبسرعة البرق الى سريره الذي رحب به وحضنه بقوة ليهديه مزيجا من أحلام اليقظة والمنام.

 

الجنية خلود تراقب كل ما يقوم به سمير لا لأنها على تلك الطبيعة السلوكية الشريرة ولكن لأنه شغفها حبا ولم تعد تتذوق طعم خلوتها مع بني جنسها منذ واقعة اخلالها بقسم اللعنة الذي كان يضمن لها الاستمرار داخل المنظومة الجنية المعقدة الأعراف والمحكوم عليها بفطرة العداء لبني البشر، عداء دفين وبعيد الجذور يعود تاريخه الى يوم نشأة الله لآدم وقبل أن ينفخ فيه الروح وبعد نفخ الروح الى الوسوسة وواقعة الشجرة المحرمة، شجرة الخلد المزعومة.

 

رغم استسلام سمير لنوم مصطنع لم تغادر خلود الغرفة ولو لبرهة فهيامها به جعلها تنتشي بكل حركاته اللاإرادية بل وحتى سكونه كانت تراقبه بشغف وشوق تامين.

 

الساعة تشير الآن الى الخامسة والنصف صباحا، يستيقظ سمير على صوت أذان صلاة الفجر، يهم بنشاط على غير المعتاد يسبغ الوضوء ويتضرع الى الله ان يلهمه القوة والعزيمة ليتغلب على كل الصعاب في مشهد سرياني أرعب خلود وجعل قلبها يصل الى الحنجرة فغادرت عالمه الصغير اختفت وخيبة الأمل تعتري ملامحها غير البادية.

 

الفصل الرابع:

 

وبهمة متقدة ومسعى عالي يطبعهما حزن عميق يتوجه سمير الى عالمه المهني الذي يصفه دائما بالمتناهي في الصغر، وبمجرد وصوله أول ما ترمق عيناه هو غياب حبيبته المفترضة في عالم الغيب وسؤال يرميه سهما عشوائيا بداخله عن سبب تأخرها، يجيب في حيرة: -قد تتأخر قليلا فقط…وهو بمكتبه أزعجه موضوع التأخير هذا ومن فينة لأخرى يهم بالنهوض ليرمق من جديد من أصبحت تشغل باله ومن لم يعتقدها يوما انها ستكون جزءا من تفكيره وعذابه اليومي الذي كان منصبا فقط حول مآل مستقبله ومستقبل أسرته الصغيرة والكبيرة في نظره.

 

يردد والحيرة تزداد شعلتها: -لربما كلام البارحة شكل لها احراجا كبيرا خصوصا وأننا زملاء عمل جدد ولربما طريقة كلامي وتركيزي على نظرها كان كافيا لتغادر العمل بصفة نهائية دون سابق انذار أو.. أو.. أه.. سمير ما هده الترهات.

 

على صوت طقطقات حذاء نسائي تذوي أرجاء الممرات يقف سمير ونبضات قلبه أصابها الارتباك والتوجس. نبضات عادت اليها الحياة عندما ملأ ناظره بجمال فاق جمال الحور العين، ودون شعور خاطب خلود بملامح وعيون رسمت عليها قلوب الاعجاب والتعجب من جمال سحري لا يراه الا هو:

– صباح الخير خلود…بالمناسبة أعتذر عن…

–  تقاطع كلامه المتلعثم وترد صباح الخير سمير.

الآن ألف سؤال وسؤال يراوده وفكر مشتت حول عدم تجاوبها معه واكتفائها برد التحية الصباحية دون أي تعليق ولو سلبي.

 

هذا الموضوع شغل بال سمير طيلة الوقت الذي أحس بكل ثوانيه الطويلة وتمنى زواله ونسيانه من ذاكرتها قبل ذاكرته، أصبح يقلب بين كفيه ويبحث عن حل يخرجه من هذا المأزق الذي اعتبره مسيئا لشخصه.

 

حيرة وسرحان أزيل ضبابه من فكره برنين هاتف مكتبه الذي كان يهتز بسبب صوته المرتفع على غير العادة ليسود صمت رهيب بعد أن رفع سمير السماعة ويجد أن المتصل خلود فائقة الجمال هذا الصباح كما ردد على مسامعها وقبل أن ينطق سمير ببنت شفه قالت خلود:

 

-أشكر لك اطراءك لي وأتمنى ان يكون نابعا من قلبك.

-طبعا…. نعم.. أنا صادق في كلامي

-لا أود صدق الكلام

– ماذا …. وماذا تودين ان كان الصدق لا يجدي شيئا هذه الأيام؟

-أود صدقا في الإحساس وميزانا على اللسان وقصدي في الإحساس والميزان شمس جلية كشمس صباحنا هذا يا سيد سمير.

-أما الصدق في الإحساس فنابع من القلب وبرجاحة من العقل ولا أسيغ كلمات وعبارات مجانية لكل النساء وانما لإحساسي أنه قد نكون زميلين مقربين في العمل وخارج العمل، أما الميزان فانه العدل في الكلام والاعجاب وحتى العدل في الفراق والابتعاد. واني أعتذر ان صدر مني أي شيء ربما قد ترينه خارج حدود الأدب والاحترام وبعيدا عن روح الزمالة.

– لا تعر أدنى اهتمام لكل ما سلف.

-حسنا كان لابد لي من تقديم اعتذار وتوضيح نية ووجهة نظري وأدعوك بالمناسبة لنتناول العشاء وكم سأكون ممتنا لو وافقتي على طلبي.

-هههه

– طلب من زميل عمل

-هل يمكن تأجيل الدعوة أم ….

-أم ماذا؟ اذن ترفضين طلب صداقتي.

-حسنا طلبك مقبول.

 

سمير الآن يلف حبل المصيدة حول عنقه وبنفسه، فتهافت رجوليته خارج ارادته على الظفر بمفاتن خلود الجنية والانسية في تصوره لن يأتي من ورائه الا المتاعب واغراءاته لها حتى هو بالكلام المعسول ساهم في زيادة تضييق الحبل حول عنقه بما يتميز به من أسلوب جذب رائع ومخادع في آن واحد أسقط به العديد من الفتيات الفاتنات من قبل لكن السحر ينقلب على الساحر لقد أصبح يتلعثم وهما على مائدة الطعام يهمان لتناول العشاء ،لقد بدت عليه علامات الارتباك والتوتر ولازالت تقاسيم وجهه متأثرة لجهلها تفسير ما يحدث له وكيف تجرأ على دعوتها  كان يخفي هذا التوتر بهرطقة أصابعه من فينة لأخرى رغم أنها ظلت متشابكة أغلب الوقت ولم يهتم بتناول طبقه المفضل من السمك المشوي فحين كانت خلود هائمة في جو بدا غير عادي كانت مسلطة بؤبؤي عينها على مركز ثقل ناصيته وتكرر تعاويذ شيطانية ذكرت فيها كل أسماء الشياطين والمردة وعزمت أنها الفرصة المواتية لتستقر داخل فكره بشكل قاطع ودائم.

انها مناسبة لطالما تحايلت خلود أن تعيش سلسلتها وتمنت متى تسنح الفرصة لها بذلك لأن عشقها له أصبح أشد ايلاما وأرادت أن تثبت لبني جنسها من الأرواح الخبيثة والمؤدية لبني البشر أنها تفوقت عليهم وتفوقت على كل قوى الشر الأخرى بمجرد أن يسقط سمير ضحية مؤامرتها الشيطانية، كانت تمني النفس لا غير فقد فقدت التوازن وسقطت في بئر الحب العميق غارقة في أعماقه الى ما لا نهاية فعن أي مؤامرة وعن أي إيذاء تتحدث؟

 

 

وسط جو جمع بين الرومانسية، خاصة وأن رواد المطعم معظمهم من الممارسين للعشق، والحميمية، دفئ الشموع زاد المكان هيبة وهي تتوسط كل طاولات الأكل التي ضمت شخوصا نسجت حولها أسرارا زفت الجميع عرسانا للحب والهيام الا سمير لا يعلم الى أين سيزفه تعلقه بخلود.

-سمير…إني أراك على غير عادتك؟

بنبرة شريرة تعلم الوضع وتسأل كالقاتل يقتل المقتول ويحضر مع مراسيم التشييع

– لا….لا…ربما تأثرت وخالجتني مشاعر الماضي المختلطة بالخوف والشوق والتعجب من قدري الذي أراه متعاطفا معي الليلة.

 

-…بعد صمت لثواني حسبت كأنها ساعات نطقت خلود وشر ظلامي نابع من عينيها التي وجهتهما وسط الطاولة لتزداد شعلة الشمعة اتقادا بشكل رهيب، لم ينتبه له سمير الذي دخل لتوه حقلا شيطومغناطيسي .

 

-آسفة لفتح جراح ماضيك المؤصدة.

 

بإزاحة هندسية مدروسة مد يده ليلمس يدي خلود الموضوعتان فوق الطاولة مند جلوسهما وكأنهما ساريتان تمنعان وقوع الطاولة وخراب المشهد الى ان التصقتا ومعدل الأدرينالين عنده قد وصل ذروته وبدأت فرائصه بالارتعاد من شدة حرارة يديها الملعونتين وحرصا من أي ردة فعل مباغتة.

وخوفا من أن يخرج سمير من داخل الحقل الشيطومغناطيسي أخدت خلود مبادرة مغادرة المكان قبل أن ينتصف الليل وتزول ملامح الجمال والفتنة من عليها.

                                                                                                                     

-سمير…سمير…سمير

-نعم خ خ خ خ خلود.

-أيمكننا الانصراف لقد أصبح الوقت متأخرا وأمامنا غد مليء بالأعمال.

-لكن لم نتناول ما طلبنا من طعام بعد.

-ههه حقيقة تهنا في دهاليز الكلام واخد الوقت منا ما أخد. فلنهم بالانصراف لأني أحس بتعب شديد وحرارتي في ارتفاع.

– اه..نعم شعرت بذلك وأنا…

-لأني لست معتادة على السهر كثيرا.

-ههه.

-ههه.

-فلتتفضلي بالخروج ريثما أدفع الحساب.

-شكرا. 

 

 

 

تبددت دخانا صاعدا الى السماء وهو يبحث عنها بالخارج ليأكد له حارس المطعم أنه ساعد مرافقته حتى استقلت سيارة أجرة وأنها كانت جد كريمة معه , عموما كان كلاما كافيا يجعل سمير يطمئن أن خلود في أمان بعد أن حز في نفسه أنه لا يتوفر على رقم هاتفها وحتى عنوان سكنها.

 

 سمير الملحاح في أسئلته يبحث عن الحارس من جديد ليستعلم ان كان قد سمع المكان الدي طلبته خلود من السائق أن يوصلها اليه ليأكد له في آخر المطاف صاحب المطعم شخصيا أن لا شخص على الاطلاق يشغل هدا المنصب وأنه ربما قد يكون أحد المارة هو من حاوره.

 

– أووه ثانية ، ربما  مفعول العقاقير التي وصفها لي ذاك الطبيب النفساني الأحمق ستجعلني أصاب بالجنون بعد أن عدت اتناولها بشكل غير منتظم ، نعن انه سبق لي وأن قرأت جريدة الدواء وهذه واحدة من الأعراض السلبية المذكورة.

 

ماشيا على الأقدام قطع سمير مسافة طويلة زاد من طولها كم الأفكار المتناثرة من حوله واستفساراته التي لم يجد لها أي أجوبة شافية لم يعي بنفسه حتى وجد نفسه جاثيا على ركبتيه أمام قبر حبيبته فاطمة التي قطع الشوق أوصاله ورمى بها بعيدة ووسط هدا الظلام الحالك أذرف دموعا دون انقطاع بعد أن لاحظ أن اسم حبيبته فاطمة لم يعد منقوشا على لوحة القبر التي تفحصها بالملمس لأكثر من مرة بسبب تصدع اللوحة التي قد يكون من ورائها سبب واضح.

 

-حبيبتي فاطمة لم أعد أستطيع العيش ولم أعد …. بصوت ممزوج بالبكاء والنحيب …أرغب في الحياة.. اني أستسلم.. وآسف لأني لم أعد قويا كما عهدتيني،آسف لأني  تناولت العشاء معها واختلست ما اختلست من نظرات.. أنا الآن أهون من بيت العنكبوت أمامك وأحقر بكثير مما تتصورين، متى أرقد بجانبك في سلام.

 

لم تكن خلود غائبة عن المشهد بل استشاطت غضبا لأنها تكره أشد الكره فاطمة وهي التي من دبرت لها حادثة السير التي توفيت على إثرها بعد أن شلت جسمها وعقلها عن التحكم في مكابح السيارة التي زادت من سرعة محركها بشكل جنوني.

 

أحيانا وخارج كل سياق يجعلنا الحب نقترف كبائر عظيمة بل ويجعلنا نؤمن باي شيء قد يقرب منا أي حبيب قد نقترف أي ذنب قد نخرج من ديانتنا ونؤمن بديانته قد نلحد أحيانا وقد ننتحر أحيانا أخرى انه الحب حد الجنون والهيام الى آخر تصور يمكن الوصول اليه.

 

قتامة المشهد وعيني خلود الشريرتين اللتان كانتا ترمقان بالتفصيل كل حركات وكلمات سمير كل هذه الأشياء جعلت المكان خشبة مسرح مليئة بالذعر والخوف أيقظت سمير من غيبوبته الافتراضية وبدأ يسأل نفسه مرارا وتكرارا كيف استطاع وتسنى له الوصول الى المقبرة وكيف تسلق جدارها وكل الأبواب تكون مقفلة في هذه الأوقات المتأخرة من الليل.

في ظل تساؤلاته المبنية على الشك والوسوسة سمع صوت مشي وكأن الفاعل حافي القدمين يجر قدميه فوق التراب ودون أن يلتفت سمير تقدم حبوا ببضع خطوات فوق قبر فاطمة علها تسحبه وتحبس أنفاسه الخائفة وكلما تقدم الماشي كلما تحرك سمير خطوة الى الأمام والفزع يمزق كل جسده الذي يتقاطر عرقا من هول الواقعة الى ان ارتطم بلوحة القبر وعلى ضوء بزوغ فجر مستحي تأكد له ان اسم فاطمة لم يعد مكتوبا بصفة نهائية ففقد السيطرة على كل جوارحه وبدأ يصيح بذعر شديد “فااااطمة” الى ان أحس بيد بشرية تربت على كتفيه ويقول صاحبها:

                                                                                                  

-انهض يابني كفاك اجهاشا بالبكاء للمقابر حرمتها.

– وبصوت جهوري أجش مخلوط بنغمات البكاء والرعب يرد سمير: من انت ومن تكون أيها الشيخ العجوز وما هده الثياب الساطعة السواد والمخيفة التي ترتديها لقد زدت في رعبي ومن مسح اسم فاطمة.

 

-أنا حارس المقبرة يابني.

-حارس المق…ب….ر..ة.

-أكيد انك تعرف من نبش هذه اللوحة ..بعينين جاحظتين  يسترسل… لوحة زوجتي فاطمة لم يعد اسمها مكتوبا كالسابق.

-بني أظن أن تأثرك بفقدك من تحب قد أثر عليك وجعلك تدعي ما لا يوجد في الأصل. فاللوحة مازالت كما هي عليه مند أمد وبإمكانك التأكد من دلك وبنفسك.

أمام صدق الحارس كادت عيني سمير أن تسقطا من مكانهما من شدة الذهول بعد أن شاهد اللوحة على طبيعتها .

-اللعنة ماذا حل بي.

-لا بني لا تنطق كلمة اللعنة فلم تحل عليك بعد.

-عفوا…بماذا تفوهت.

-لا..لا… لا شيء.

 

الى آخر جدار المقبرة خرج سمير وجلس أرضا في مساحة مليئة بالأوساخ عله يجد تفسيرا لهذا العالم الدي ساقته رجليه اليه، لكن يبدو أن التعب والعياء أخدا منه ما أخدا ليستقل سيارة أجرة ومن تم مباشرة الى سريره غاطا في نوم عميق دون ان يعطي مبررا لوالدته التي لم تدق طعم النوم والراحة منذ تأخر ابنها الوحيد عن ولوج المنزل بشكل لافت للنظر والغرابة تبدو على محياها بعد أن شاهدت ثيابه الأنيقة كيف أصبحت رثة وكيف وجهه المنير أضحى قاتما بعد مروره بكل الاعيب خلود الشيطانية التي لم تترك له عقلا سليما يفسر به تحليل الأحداث والتفكير فيها سوى محاولته الاستسلام للنوم، كلما تقلبت الآلام في قلبه، وخيال الوجد يستعمر مضجعه وينتفض في وجهه صائحا: النوح حرام في شريعتي .

 

الفصل الخامس:

 

النوم سلطان لا يرفض له طلب وخمرة يتذوقها الانسان ينسى بها كل الوقائع المرة التي عاشها يرتاح بفضلها كل فكر متعب، لكن تبقى دائما المرحلة الأصعب، الاستيقاظ في الصباح وأنت تتذكر ماكنت تتهرب منه وتحاول نسيانه في الليلة الماضية التي كانت الأمنية فيها نوما كغيبوبة طويلة ترد الذاكرة بيضاء وخالية تماما من الأوجاع.

استيقظ سمير بعد الزوال بكل ما سلف ذكره رغم محاولات والدته ايقاظه حتى لا يفوته وقت العمل وتوجه مباشرة الى المقبرة من جديد بعد أن أوهم والدته وأبنائه أنه متجه الى مقر عمله.

لم يكن الهدف من التوجه الى المقبرة سوى ملاقاة الحارس الذي كان يسترق السمع وحضر وعاين كل شيء، ليتأكد لسمير أن المقبرة تبقى بلا حارس ليلي وكل الحراس من الشباب وليس هناك أي حارس متقدم في السن فأكبرهم سنا لا يتجاوز الأربعين سنة بحسب الصور التي تم عرضها عليه من طرف مسؤول المقبرة الذي كان كريما في تقديم كل معلومة احتاجها سمير للوصول الى حقيقة غائبة عنه.

-اأزور الطبيب مجددا أم … أم كل ما جرى مجرد ارهاق وتعب شديدين.

 

بعد أن دفعت خلود روح فاطمة النقية قربانا لملك الجن كطقس من الطقوس الشيطانية وبعد أن سقت بلئم حدائقه بدم الغدر لم يكن هناك سبب وجيه يحثها على ذلك سوى أن فاطمة تعرضت للسحر الأسود من طرف صديقتها سعيدة التي كانت تزورها من مناسبة لأخرى وكانت تكظم الغيض لها كلما تجلت لها صور الحب التي تتبادلها مع زوجها تحت نغمات وسامته واناقته وكلامه المعسول والمعهود.

 

الحسد والغيض والبغض سمات سيئة لدى بني البشر والتمني لا الحسد مأمن لكل بشر يأخذه منهاجا بل تمني زوال النعم وحصول الأسوأ للغير هو المتبنى الحاصل دوما.

 

 سعيدة صديقة فاطمة وأقرب المقربات لها قريبة منها حتى في أفكارها تشاركهم الحلوة والمرة ،غدرت بها بعد أن استعانت بأحد السحرة لإيذائها بدون موجب شرع ومنطق ولا لشيء سوى الحسد وتمني زوال الآلاء والنعم وكانت قاعدة السحر الذي أصاب فاطمة هو تكليف جنية لتدمير حياة فاطمة وتفريقها مع زوجها بزرع الكره والضغينة بينهما لكن الموضوع خرج عن السيطرة بعد أن رفضت سعيدة الالتزام وتوفير كل طلبات ذلك المشعوذ الطامع في المال ليتنحى عن إتمام عمله الآثم ومعتقدا في نفسه أن كمية الإيذاء التي قامت بها الجنية خلود قبل وفاة فاطمة من خصام وجسد وهين كان كافيا ومتساويا مع المال الذي تحصل عليه من طرف سعيدة التي تجسد فيها الشر بجميع مظاهره حتى انها تخطت فيه الشياطين بمراحل.

 

العلم لله ووحده يستفرد بذلك لم يعلم هذا الأخير رغم تنجيماته وتكهناته ان الجنية خلود كان لها رأي آخر في الموضوع ولم يخطر بباله أنها وقعت في حب زوج الضحية التي كانت تكن له في بادئ الأمر الكره والضغينة قبل أن تصبح أسيرة غرام مستحيل بين انس وجنية.  

 

لطالما سمعنا أن انسيا كان متزوجا بجنية أو العكس ولطالما اخدنا الموضوع بشكل من الاستهتار أو التعجب والتشكيك ولكن هناك حقيقة مرة تؤكد كل الأقاويل المنسوجة عندما يتم سياقتها بلسان من خاض التجربة أو فرضت عليه بشكل من

الأشكال، اننا لا نختار في الحياة وكل منا تمنى أن يكون …وان لا يكون… , حتى سعيدة تمنت ان تكون في يوم من الأيام  حبيبة لسمير وهي التي ما فتئت حتى أصبحت مقربة منه بشكل كبير ساعدها في ذلك معرفتها التامة بكل عاداته وطباعه كانت تعرف حتى نقاط ضعفه تقربت منه بشكل إيجابي حتى من أبنائه وأمه وازدادت حبا في نظرهم متظاهرة أن الحزن خيم على قلبها منذ وفاة صديقتها الوحيدة وان مصابهم الجلل هذا مصابها أيضا.

 

لقد ملأت كل الفراغ الذي خلفته فاطمة وأصبحت زوجة في الخفاء بلعبها كل الأدوار التي يمكن لربة بيت وزوجه وأم لعبها، براعتها في التمثيل وحسن أدائها للدور جعل والدة سمير السيدة رقية تقترحها زوجة خليفة للمرحومة وهي تقول:

 

-بني …

-واه أماه..

-طيب خاطري ورمم أوجاع أبنائك.

-اني أقوم بكل ما يمكن فعله وأكثر بكثير حتى لا يحس ابنائي بجمرة اليتم الحارقة التي أحسست بها بعد وفاة والدي.

-عساك لم تفهم قصدي.

-أي قصد وأنا اوفر لهم كل الظروف المواتية وإنك على علم تام بذلك.

-سعيدة ..

-المسكينة لم أرى في حياتي شخصا بهذا الوفاء وهذا ما عهدناه فيها .

-سعيدة يابني…

-نعم امي سعيدة.

-سعيدة يا بني تحبك .

-أمي كفاك.

-سعيدة يابني تحبك والوحيدة التي سيقبلها أبنائك أما بديلة.

-أمي ..سعيدة بمثابة أخت و….

-وماذا؟ والى متى؟ وما ؟

-هذا موضوع خارج حدود فكري ولن يقبل قلبي امرأة غير فاطمة.

-بني لا اطلب منك موافقة ولكن كل ما اطلبه هو مراعاة الحالة النفسية التي يمر منها أحفادي.

-حسنا امي ولكن أنا لا اعدك بشيء.

 

 

الفصل السادس:

 

كل كبيرة او صغيرة الا أحصتها وهي التي أغوت قرين سمير الذي يروي لها كل التفاصيل التي تدور بينه وبين كل الأشخاص وبينه وبين حتى نفسه على الرغم من اطلاعها بنفسها بكل هذه الجزئيات ولكن حبها الشديد واهتمامها الزائد هو ما جعلها تجند القرين لطاعتها بعد ان أغوته بإهدائه كل رموز وطلاسم وأسرار كل الأرواح الخبيثة والشياطين المذكورة في كتاب اللعنة المحفوظ تحت عرش الشيطان الأكبر والذي تحرسه أمة من الأفاعي السوداء التي تصبح خادمة امينة لكل من بحوزته الطلاسم وبعض من هذه الرموز.

 

الطماع يغلبه الكذاب هكذا انتصرت خلود على القرين برسم الوهم ونشر الخديعة وتزيين الفاحشة وتضليل اليقين بالشك والارتياب، وهكذا ما عادت حياة سمير تطبعها الخصوصية وأصبح كل عزم يشدوه باديا ومتجلي المعالم لها أصبح كتابا مفتوحا وسهل اللغة لم يعد مبهما كما كان يحرص على ذلك من قبل.

 

تطورت الأحداث وتسلسلت لصالح الاثنتين فسعيدة احتلت مكانة عزيزة في محيط سمير وخلود علاقتها بسمير تقوت بشكل إيجابي هي الأخرى وهي التي ادعت سهولة اختراق جسده في ظرف وجيز ولكن هيهات.. هيهات بين القول والفعل، لقد استغرق الموضوع شهورا وأياما من أجل خلق روابط قوية فقط لا غير في ظل وجود انسية اسمها سعيدة فضلت مجابهة الثقلين من أجل الحب فتحصنها بالتعاويذ وايمانها بالسحر والشعوذة أوصلها أن تتكهن وعن يقين أن زميلة سمير في العمل والتي يرتاد معها مقاهي ودور سينما المدينة جنية من طينة سوداء عشقت انسيا ليس من عالمها واقسمت بشرفها أن تتحداها وتتحدى غيرها من الانس والجن وتسلحت بسلاح الحب أو الموت في سبيل الحب، حرب ضروس هي اذن تتطاحن فيها سعيدة وخلود التي أصبحت شبه ضعيفة بعد أن تخلى عنها بنو جنسها لنقضها الوعد و وعدم التزامها بأنظمة الشيطان الأكبر وهو سبب كاف بأن تصبح طاقة وقدرات أي جني ضعيفة .

 

داخل غرفة سمير المرتبة بعناية والتي تسهر سعيدة على ادق تفاصيلها تقف وهي تحمل قميص سمير وتستنشق رائحة حبه الذي تربع على قلبها وجفنيها مسدولين تنسج أحلام عرسها وشهر عسلها أمام تناثر القبل في كل زاوية من هذه الغرفة التي كانت جنة في أعينها، أحست سعيدة بريح ساخنة ورائحة تزكم النفوس تهب حول جسدها من أسفل قدميها الى اعلى جسدها وبصوت مرتعش بادرت:

 

-أعرف أنك هنا يا لعينة.

 

ازدادت حرارة المكان كدلالة على غضب خلود فهي لا تستسيغها. ووسط مشهد يمر ببطيء صكت سعيدة أسنانها غير مبالية بما ستقول:

 

-أعرف كل حيلك يا لعينة، تكررها وقلبها يتراقص في صدرها من شدة الخوف.

-وأخيرا همسات في أذني سعيدة .. أتمنى ألا تصرخي بنفس القدر الذي حدث فيه الصراخ الأخير.

 

كانت تقصد صراخ فاطمة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ورددت بشكل متكرر تتخلله ضحكات مغلفة بلذة الشر والانتقام.

 

-هو ليس لك.. هو ليس لك.

 

بقي هذا التكرار صدى ميزته نبرة صوت حاقد وحاد شل من حركتها وجعلها متسمرة في مكانها مدهوشة مما سمعت وأحست، حاولت وسط هذه الحالة المفزعة الصياح طلبا للنجدة لكنها أحست بأظافر حادة وكأنها رماح مشحوذة بدقة تضغط على عنقها وتجثم أنفاسها الضعيفة.

 

تبددت دخانا واختفت كالمعتاد تاركة سعيدة في ذهول تعيد شريط أحداث هذه المعركة اللسانية وتعطي تقييما لنفسها كيف كان الأداء ومتسائلة في نفس الوقت لماذا لم تقم خلود بإيذائها وانهاء الأمر بشكل سريع أم الأمر الحاصل كان انذارا وقد أعذر من أنذر.

 

لعبة الحب كالقمار هناك رابح وهناك خاسر ولابد من ذلك انها سنة كل لعبة لا بد من الخسارة وطرفي اللعبة ترفضان الا التتويج والفوز بقلب الحبيب الهائم في تقبيل ذكرياته الجميلة مع من أحب وسيظل يحب.

طيش الحب بالنسبة للثلاثة سيورثهم العناء والنوائب داخل بقعة تجمع بين الانس والجن وشريط من الأحداث ينتظرهم ليستعرض من خلاله كل واحد فيهم أبرز ما لديه خصوصا خلود وسعيدة التي اختفت عن الأنظار ولم تعد ترتاد على منزل سمير منذ أزيد من أسبوع متداعية أنها في زيارة شمال البلاد لتطمئن عن حال زوجة أخيها التي تحتضر بحسب اتصال هاتفي تلقته.

 

انها مجرد وصفة علاجية أو استراحة محارب هذا ما آل اليه فكر خلود بعد هذا الغياب المقصود فهي تعرف جد المعرفة روحها الخبيثة ونظرتها المستقبلية للأشياء ومدى صبرها عليها للظفر بما تريد ومهما كان ثمن الأشياء.

 

صباح آخر مشرق بروتين الأحداث المتكررة، تستيقظ السيدة رقية تؤدي فريضتها في خشوع تام مختوم بتلاوات من القرءان وبعض الأذكار بلسان تغلب عليه أميتها البادية عليها طرق حاد على الباب يكسر عليها صفوة ذاك الجو الإيماني الذي تسعى لخلقه بشكل يومي وتخصص فيه وقتا مهما للدعاء لابنها المكلوم، تفتح الباب وتتفاجأ بسعيدة.

 

-حبيبتي ..لا زال الوقت باكرا لما أتعبت نفسك بالمجيء، وأجراكم الله في وفاة زوجة أخيك، كنت أود المجيئ والوقوف بجانبك ،لكن ما باليد حيلة بنيتي.

– أعرف خالتي رقية وشكرا على التعزية عبر الهاتف فقد كانت كافية.

 

-اشتقت الى سم… الى الأطفال…ا…أ  … كيف حالهم.

-بدورهم اشتاقوا لك.

-سأعد فنجان قهوة لسمير وسأدخله له لغرفته ان سمحت لي بذلك.

-فكرة سديدة عله يستيقظ دون وجع دماغ.

 

تدخل سعيدة غرفة سمير وتسحره بجمل من التعاويذ وجمال ينضاف الى جمالها اللافت كلما فتح عينيه ليطلع على من توقظه وبكلام فات كل حدود الرومانسية والتحم مع منطوقاتها السحرية راودته عن نفسه وضاعفت شهوته الجنسية والروحية حتى شاركها فراشه الدافئ حبا دون أن يعي أنه خان ميثاق حبيبته المتوفية ودون أن يعلم انه أهدى جسمه قربانا للفاحشة ودون أن يعرف أنه سقط في بئر المحظور ،لكن كانت روحه غائبة عن المشهد وما فيه وما كان واعيا حق الوعي فالأحداث مرت كالبرق مرت كأنها حلم صغير وسط أحلام كبيرة مكبلة بالخيال الذي يسافر في طرقاته كالمعتاد، استيقظ من أضغاث أحلامه وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وعلى غير عادته وبعد أخده حماما ساخنا غادر المنزل صوب عمله متسللا وهاربا من مواجهة والدته التي تنتظر على أحر من الجمر اخده مبادرة الزواج من سعيدة ليملأن عليها البيت بهجة وسرورا من جديد .

 

فوق مكتبه وقبل فتح بابه الزجاجي لمح باقة ورد أحمر تتوسطها بطاقة كرتونية مكتوب عليها بالأحمر ” كيف كان صباحك…. خلود”.

 

-تسألني عن صباحي هههه ما هذا الجفاء.

 

جلس بمكتبه مباشرا عمله اليومي والروتيني وفتح حاسوبه ليطلع على رسائله الالكترونية فظهر اسم خلود أولا وهو أمر غير اعتيادي، تساءل سمير وتعجب قائلا:

 

-كيف تم إزاحة اسم فاطمة من شاشة الحاسوب وعوض بخلود هذا غير ممكن، هل عبث أحدهم بحاسوبي’ لا لا لا يمكن. سحقا ، سأعاود تشغيله من جديد وما هي الا برهة حتى ظهر اسم فاطمة بأحرف متقاطعة وبعيدة .

 

كرر سمير إعادة تشغيل الحاسوب لأزيد من خمسة مرات وهو يقنع نفسه أن فيروسا أصاب الحاسوب، وكان عند نطقه لاسم فاطمة في كل تشغيلة رمقات مسلطة بنظرة شريرة من خلود التي كانت تراقب الوضع كعادتها عن كتب وكانت طيلة مرات التشغيل تنثر الكره بداخل قلب سمير كانت تزرع بذور الكره في قلب تربته بيضاء عاش مسالما وأحب مسالما ويريد العيش كذلك.

 

خلود كانت لا تفوت أي فرصة وكانت تدرس كل تحركاته وفق نظام شيطاني مبرمج بحسب الحالة والوضع كانت تجعل فرحه حين يتذكر حبيبته المتوفية بحدث ما حزنا وتجعل من الحزن فرحا وتحررا.

 

 مكائد الجن قد تتساوى أحيانا مع مكائد الانس وقد يتفوق هذا الأخير أحيانا لتميزه بالعقل عن باقي الخلق ولتسخير الخالق عز وجل له ما لم يسخره لباقي خلقه فسعيدة بدورها هي الأخرى لا تفوت أي فرصة، تستغل أي حدث لإبراز نفسها أن لها قابلية أن تلعب دور زوجة وأم أو حتى عشيقة المهم أن تشبع نزواتها النرجسية وتصل لقمة الهرم لتتربع على ما كانت صديقتها متربعة عليه ، فها هي تقرع باب شقة سمير وتتفاجأ بتعجب السيدة رقية ومراودتها الشك عن كيفية مغادرة سعيدة مجددا للشقة وكيف تسللت الى الخارج دون أن ترمقها حاولت إيجاد تفسير لذلك بمساعدة من سعيدة التي ومن دون ريب علمت أن خلود استغفلت الجميع وباشرت أمرا في نفسها قضته ، هدأت سعيدة من بداية الروع الذي بدى ظاهرا على السيدة رقية وأطفأت شعلة تساؤلاتها واستغرابها بكونها لم تأخذ وصفاتها الطبية التي كانت سعيدة بنفسها تسهر على أن تأخذها في وقتها المضبوط وهي الحيلة التي انطلت على السيدة رقية التي كانت تعشق الى حد كبير سعيدة معتبرة إياها ابنتها التي لم تلد وماسحة موضوع تكرار دخول سعيدة في نفس الصباح لمرتين متتاليتين بدريعة أنها أوهام ساقها المرض و الشيب وعتيها في السن.

 

سعيدة وبعد أن علمت أن خلود ولجت غرفة سمير بداعي تقديم فنجان له لم يكن له أي وقع لحظي عليها بل كان همها الوحيد تهدئة السيدة رقية التي زادتها تعبا على تعب تفكيرها بطريقة للإطاحة بخلود والى الأبد ليتحول هذا الوقع الى لحظي دفعها الى ولوج غرفة سمير والبحث عن أي شيء، أي شيء…هكذا كانت تردد سعيدة وهي تلوح بنظرها وتكتشف كل زوايا الغرفة التي تحفظها شبرا شبرا، الى أن حط بصرها على مقبط شعر أحمر اللون تلمست بشكل لاإرادي مقبط شعرها وهي تظن أنه مقبطها وبمجرد لمسه اختفا المقبطين ورجحت وبنسبة مئوية كبيرة أن اللعينة خلود ربما قد تقمصت صورتها ولعبت دورا أثناء غيابها فوق سرير الحب والهيام كانت هي الجديرة والأحق به.

 

ان حس النساء في مسائل العشق حس فطري قبل أن يكون حسا مكتسبا وشعورهن بمرارة الخيانة لا يمررنه بسلام فهن قبل خلقهن أقسمن على الانتقام وتجردن من كل أنوثتهن لمجابهة الحياة السالبة بشكل عام ومجابهة الرجال بشكل خاص ،أقسمن على الشرك وعدم الرضوخ والاستسلام وبايعن على الحب ورسخن قانونا له مكتوب في مدخل سجن الحب بدماء التضحية والخيانة وبحروف وضعت بحروب انه قانون الانفرادية في الحب لقد عرفت النساء الحب أنه ملك شخصي عكس ما عرف به انه نزل من السماء وانه عاطفة نبيلة وانه رموز تنبع من الفؤاد انه بحسبهن مركب اذا حمل أكثر من اثنين غرق.

 

الفصل السابع:

 

الغرق في الحب لم يدع خلود وشانها وبدأت تجتهد لشحن طاقة خارقة تمكنها من السيطرة على الوضع بشكل او بآخر وإبقاء هذا الشكل متحكم فيه بقبضة من شيطان رجيم لا يحن ولا يئن لما ستؤول اليه الأحداث التي تتمنى خلود لو تعرف ثمارها المستقبلية لعدم تفرد الانس والجن خاصة بمكنونات المستقبل وما يحيكه ،فلا التكهنات ولا حتى التأويلات تفي بالغرض، فقط الواحد الأحد هو المتفرد بعلم الغيب والسفينة تبحر منذ أمد بدون شراع والكل يريد وضع شراع بما يتناسب مع ريحه وكل واحدة منهما تود أن تكون فبطانة لهذه السفينة التي وقودها الحب  واي حب، حب أسود، حب من طرف واحد أحيانا،  حب… ليس حبا وانما هذيان وأمنية بعيدة المنال .

 أمنية بعيدة المنال هذه كانت منطوقات خلود بلغتها الشيطانية وهي تحاول دحض أي فرصة لسعيدة مع سمير فهي تعد لها العدة لتمحو أثرها من حياته التي هي ملك لها وحدها بحسب عهد شيطاني مكتوب وموثق في محكمة الجن عهد مضمونه الايذاء وليس الحب وهذا خلط سيدفع ثمنه كل من في هذه الجلبة بحسب النظام الجاري به العمل داخل المنظومة الشيطانية لكن الحب جعل من خلود تغض النظر عن كل القوانين وتضرب بها الأرض وعرض الحائط، بل انها تحدت الخالق والخلق من أجل عاطفة لم تكن نبيلة قط.

 

ليست خلود الوحيدة التي تفكر في سعيدة فقد باتت سعيدة هي الأخرى ومنذ اكتشافها لوجود دخيل في خطتها تلملم قواها وتعصر فكرها لإيجاد طريقة تطيح بها بجنية متمردة على بني جنسها –فكيف سيكون حالها مع غير جنسها-

وحدها القوة من تكرس الحكم والاستمرارية هذا هو المنطق عند سعيدة واي قوة انها تعتمد على قوة العقل والتدبير المنهجي القائم على الفكر المحاط بطقوس السحر والشعوذة والمبهم النتيجة، لقد أضحت تحرص على تقديم فناجين القهوة لسمير في الأوقات التي تحس أنه يرغب في احتسائها ليس حبا في رغبة سمير لهاته السوداء التي فتنت الجميع وانما لأنها تحرص على وضع قليل من مادة شبه مخدرة غير صيدلية تم تحضيرها في ظل ظروف تستجيب لمعايير السحر والايذاء، تضعها في كل فنجان حتى أصبح سمير مدمنا يبحث ودون شعور عن مزود له بفنجان الخلاص، ذاك الخلاص الذي تتقنه سعيدة كلما أعدت له القهوة التي زاد من ادمانها واحتسائها بشكل غير طبيعي تطورت حدته منذ اختفاء خلود من محيط سمير بشكل مفاجئ له دون معرفته السبب جراء قيامها بذلك، وفي ظل هذا الحيز الزمكاني الفارغ حرصت سعيدة الى الوصول الى أولى أهدافها فبعد استغلال ظرفية خلو المنزل الا من من ألهمها وأشعل فتيلة الحب في قلبها تبرجت بشكل يجلب الرجال عن بعد الاف المترات وأعدت فنجانا طبخ على نار غدر هادئة وفاض بمكر ناضج و هائج طرقت باب غرفة سمير:

 

-سمير…أظنك تحتاج لهذا الفنجان

-واه كنت أفكر في ذلك

-أحسست بك…. على الرغم أنك لا تحس بي…اااا.عفوا لا تحس بطعمها.

-انها أحلى طعم لدي ومنذ أن أصبحت تعدينها لي.

– اتقصد أني بارعة في ذلك.

-أنت البراعة نفسها.

 

تتقاطع أنفاسه البريئة وهو يحتسي فنجان الغدر ويتشاطر الأراء والكلمات مع انسانة مسح الحب من قلبها الرأفة وسلب من وجدانها الرحمة، تطرقت معه الى العديد من المواضيع الشخصية والساخنة حتى تتعب فكره ويسقط ضحية لمقدار المخدر الموضوع من يدها السوداء في هذا الكوب الذي لربما يكون آخر كوب غدر في تاريخ البشرية.

 

سمير الآن يتمايل وكأن زلزالا ضرب الغرفة يترنح وكأنه نحلة داخل حقل مليء بزهور ملغومة برحيق مميت، سعيدة مخرجة هذا الدور تنتظر بكامل اللهفة أن يحين دورها انها لا تود أن تفسد ما عاشت من اجله منذ سنين وكأنها تعلم أن الحب فرصة واحدة لا تتكرر انه كالحياة وكالقطار يسيران دوما الى الأمام دون رجوع ودون التفاته، تحسب الزمن خوفا من تسلل خلود وتغيير الدور ومشهده فهي لا تعلم خلو الركح منها بسبب غيابها، استقرت كل الأحاسيس وفاضت رجولة سمير المطمورة فارتمت بين أحضانه سالبة منه ما ليس لها وما لم يكن يوما لها ، اهدته عزوبيتها المفقودة سلفا باسم الحب المفرد ،تتلذذ بنشوة بداية النصر وهي تتحس كل جسمه شبرا شبرا، تكتشف معالمه وترسم خارطته علها تعود يوما من الأيام الى التنزه في الأماكن والمناظر التي كانت تسترق النظر اليها من قبل وكانت تتخيل أشكالها وهي تطوي وتكوي ملابس فارس أحلامها الذي أهدته جواد الغدر والشر، تقاسمت معه الفراش ليس لأن خلود سبقتها في ذلك وأنه كان لزاما عليها وفي معتقدها النسوي فعل ما فعلت منافستها، ولكن لأنها كانت تطمح منذ وقت طويل جدا في هذا الحاصل.

 

امتصت كل الفحولة الموجودة بجسد سمير وغادرت المنزل تاركة إياه يغط في نوم عميق، ليستيقظ وتقاسيم وجهه تطرح مجلدات من الأسئلة وتتلقى في نفس الوقت جبالا من الأجوبة القاصرة، بحث عن سعيدة ليسترق بعض الإجابات منها، هاتفها لكنها نفذت معه بعضا من شيطنة النساء بعدم الرد على كل اتصالاته التي فاقت المئة فقرر ترك رسالة صوتية لها:

 

-سعيدة لا اعرف ما الذي حدث بالضبط ولا اذكر جيدا ماذا حصل هل كنت فضا معك؟ هل قمت باي شيء …. ربما …. أنا فعلا آسف.

 

لعثمة في الكلام وحروف في غير موضعها وجمل بلا معنى وافادة، لكنها تحمل سعادة كبيرة لسعيدة التي تحتسي الآن كؤوس النصر والفرح، ركزت على الموضوع وضخمت من حجمه وانتظرت ساعات وساعات مرت طويلة على سمير الذي كان يشكك في الأمر وكانت نفسه تخبره أنه اقترف شيئا لكنها كانت عاجزة في وصف الشيء المقترف وكانت تحتاج الى قرينة من سعيدة فجوهر الأمر هي الوحيدة التي تعرفه وتعلم مكنونه.

 

 بدورها ردت وبعد طول انتظار عبر رسالة صوتية:

 

-سمير أعرف أنك تمر بظروف عصيبة وانا دائما وابدا سأكون بجانبك لكن ما حدث بالأمس جعلني مرتابة نوعا ما.

 

انه سوق النساء وعالمهن المليء بالأسرار، فكل كلمة أرسلتها سعيدة في هذه الرسالة الصوتية لم تكن بشكل عفوي وانما بشكل مدروس وهادف، بعد ان تلقى سمير هذه الكلمات كان لها وقع أكبر على كبريائه وزاد من زخم تصوره لما جرى وبصورة مبهمة جعلته يكرر رسالة صوتية ثانية ترجى فيها من سعيدة إعطائه صورة توضيحية ومقربة لما حدث بالضبط لكن الجواب لم يتلقاه رسالة كما انتظر.

 

 لقد غادرت منزلها واتجهت صوب منزله كعادتها وكأن شيئا لم يقع تبادلت السلام مع كل من بالبيت وتحاورت مع سمير دون أن تشد انتباهه المتلهف، بل اكدت له بالتلميح أن لا شيء وقع بينهما وانه كان في حالة نشاط هيستيري لفظي لا أقل ولا أكثر، كان في خطتها اللئيمة ضرورة إخفاء الواقعة حتى لا تورط نفسها في ردة فعل قد تكون سلبية من طرف سمير الذي كانت متأكدة انه سيرفض أي فعل او أي علاقة غير مبررة وعابرة.

 

سمير الذي يبدو أن خلود شغفته حبا يجتهد في البحث عنها ويحط الرحال بفكره المرهق بين ذكرياته الصغيرة معها ليطرح أكثر من سؤال وسؤال عن المكان الذي يمكن ان تقصده مؤنسته على حد وصفه لها وهو وصف يخبئ حقيقة لا يود البوح بها ولا حتى الاعتراف بها أمام نفسه النرجسية في الحب على ما يبدو، بحث في المجهول وتنقيب في نقط مختلفة تربط بينها آهات من اللوم والمعاتبة لعدم توفره على كل المعلومات التي تخص خلود والتي كانت تتهرب من الادلاء بها له كلما طلب ذلك، تأنيب لم يعرف من أين تسلل اليه وأصبح نارا تدب في كل لحظة يفكر فيها في هذه المؤنسة الغريبة الأطوار والعجيبة الجمال ، نفسه الأمارة بالحب تردد أنه لأسوأ تعذيب في العالم أن تنتظر شيئا وأنت لا تملك ادنى فكرة عما تنتظره وليس بيدك حيلة سوى الانتظار ذلك الواقع المريب الذي يرتدي ساعة معطلة، الانتظار فقط ..، لا شيء سينسيه جبروت جمال خفي تفردت به انثى دونا عن باقي الإناث ولا حتى تلك الهمزات النسوية التي تبدع فيها سعيدة بشكل رائع أتت أكلها معه وهي المستعدة للركوع له شريطة ان يبادلها الحب.

 كل جوارحه مشدودة الآن الى خلود، تنجذب اليها بشكل عبودي انه جاثوم مطبق على روحه المحكوم عليها بعشق جنية أو الإبادة والى الأبد اللامتناهي في الزمان والمكان، هذه قواعد العشق عند الجن ، لا فراق بعد ارتباط القلوب ولا تعداد وتعدد في هذا العشق المنظم بعرف الجهل والسحر والتملك الفردي ،لا من ضرورة حتمية بأن يتوافق طرفي الحب يكفي أن يحب شخص واحد شخصا آخر لا يطيقه ، لا حرية لديهم في الحب، ولا مشورة في ذلك الا بما يحكم به السلطان الأكبر “سوميا” ولن يحكم يوما بالعدل لا لشيء خارج نطاق النظام ولكن ليبقى كل معبوديه من الجن تحت رحمته ،كبيرهم الأعظم وطاعتهم له فرض واجب وطاقة لهم تتجدد في أجسامهم وتجعلهم أقوياء ومتسلطين على بني البشر عدوهم الأول ، وما من احد من الجن يتمنى أن يفقد رباطة جأش مجانية تقتضي مجرد الطاعة والالتزام بأدية الانس والسيطرة عليه والزج به في غياهب سجون الشرك والمعصية ، معادلة بسيطة يفلح فيها عادة كل جني في هذا الكون الا خلود لم تستطع ذلك ، لقد سعت ان تكسر القيود وتتحرر من أصفاد الأعراف والقوانين وتجمع بين الانس والجن برابطة الحب المقدس، سعيها مشكور، ومرفوض منطقيا بدلالة الواقع والعلم والدين.

أرادت ان تسير بالزمن في مختلف الاتجاهات عكس اتجاهه العادي، أرادت دمج كل قوى الكون ودحض كل الخرافات، ارادت حبا نقيا وساميا مع بني البشر تنير به عالمها المحكوم بطاقة مظلمة، ارادت ربما الانتقال للعيش مع البشر كآدمية لكن …هناك قوى ونظريات علمية عظمى تنفي وقوع ما تتمناه، هي أرادت… وهو يريد…وسعيدة تريد، والله فعال لما يريد.

إرادة سعيدة لم تضعف امام تهافت سمير على تقصي أخبار خلود، الذي وقع في الحب فحالته المزاجية تؤكد ذلك والتغيير المفاجئ في عاداته أزال الحجاب عن المستور وأصبح يستفز سعيدة بهذه السلوكيات المكتسبة والجديدة وهي التي تود ان تكون جزءا من تفكيره مهما كلف ذلك الثمن ومهما كان عدد الفناجين المملوءة بالغل وحب التملك، تلك التي اعتادت تقديمها له في كل مرة كانت ترغب فيها بحشر نفسها في أمور سمير الخفية التي تروج في مخيلته، انها ترغب فقط

 

 

 

وبشكل اكيد ان تطلع على كل رائجة بفكره، وتسعى ان تكون ملمة بكل خباياه للاستعداد لمجابهة مصير تجهله الى هذا الحين، لكن تعلم يقينا ان لخلود نصيبا فيه.

 

مرافقتها لسمير لأماكن عدة بالمدينة وخارجها لم يقربه منها رغم أنها كانت تتزين ظاهريا وباطنيا حتى أصبحت كزهر الرمان في نظر كل العيون، بل على العكس كان كل مرة يثني عليها ويشكر الله أن من عليه بأخت يرمي في حاويتها كل همومه واسراره ما عدا تلك الأسرار التي تتعلق بجنية اضرمت نار الحب لديه والتهمت ألسنتها السوداء والساخنة بالحقد آمال سعيدة المستعدة لخوض كل الجولات ومهما كانت النتيجة.

 

موت الشخص واقفا أشرف بكثير من موته جاثيا على ركبتيه، طالما الموت سيد الحدث والموقف هذه العبارة كانت سطرا في أحد كتب سعيدة التي اعتادت مطالعتها من حين لآخر، استوقفتها مرة ووضعت تحتها خطا بالأحمر العريض ليس اعجابا بالعبارة وانما لإشباع روح طالها قهر الحب وعذبتها قذارة وسوسة نفسها الخبيثة الطامعة لسلب النعمة من الغير، نقمة تعذب صاحبها وكل من تشبع بهذا السلوك وتجره الى الايمان بالخرافات أكثر من العلم كلما رمق بنظرات الغل والحسد الى ما يمتلكه الآخرون من أرزاق ليست بيد أحد وانما هي مقادير تجود بها السماء ويشكك في عدلها ضعاف الايمان بوصف قسمة السماء قسمة ضيزى.

 

 

الفصل الثامن:

 

عندما تجالس امرأة جميلة تمر الساعة كأنها ثانية، وعندما تضع يدك في فرن ساخن تمر الثانية كأنها ساعة، هذا كل ما توصل اليه سمير وهو بين أحضان سعيدة الباردة.

 

 سمير أضحى يواسي نفسه ان ظهور خلود في حياته كان بلسما خفف كل ضغوط الحياة من حوله، كان يحاول تذكر كل لحظة بلحظة وهو معها لكن كل اللحظات كانت قصيرة جدا في الزمن رغم طولها في الأصل ، فهو يرى انه من أجمل المشاعر على الاطلاق تلك التي يعيشها الواحد بعد أن يجد شخصا يستطيع الحديث معه في أي شيء ، أن يخبره بكل شيء دون ان يتجمل وأن يفكر ، ان يحكي له كل افكاره مهما كانت سخيفة ، مخزية ومؤلمة ، دون أن تراوده أطياف القلق من تحول النظرات عنه ، هذا هو عذاب الحب بالفعل عندما تغيب عنه هذه الأشياء، وهكذا يعذب الحبيب حبيبه، يقترب منه، يعرف الكثير عنه، يضطلع عن كل خباياه، يجذبه الى حيث لا عودة، يواسيه، يضمه، يقلده، يقبله ويبادله كل إحساس نبيل، ثم فجأة يختفي دون اشعار، لتشتعل لظى الحب في الفؤاد كما تشتعل في الهشيم او أمشى.

 

انه جانب من خطة خلود فبصفتها انثى لا بد ان تعذب وتسلب فكر الرجل، الى جانب اختفائها للتجدد بالطاقة الكافية التي فقدت جزءا مهما منها منذ مخالفتها شرائع وطقوس بني جنسها اللعينة، طاقة سوداء المكونات وجبارة في هدم من يقف أمام عزيمتها، طاقة كونية مستمدة من عالم الماورائيات ستسخرها بالأساس لمجابهة سعيدة التي تسلحت بكل طلاسم العرافات وشغلت عقلها بدهاء كأقوى قوة لا يمكن قهرها.

 

لا توجد خطوة عملاقة يصل بها الثلاثة الى ما يطمحون اليه وانما بلوغ أي هدف كيفما كان يحتاج من كل واحد منهم الى الكثير من الخطوات الصغيرة والمدروسة بتركيز وسط هذا الحقل المليء بألغام الحب، الشر والضغينة، وكل واحد منهم يعي جيدا أن النجاح في الأشياء جبل لا يستطيع الشخص تسلقه ويداه في جيبه فكل واحد منهم يخطط ويدرس الوضع ومستقبله بل وحتى ماضيه الموجود والذي لم ترحل صوره عن الأذهان.

 

ليس هناك من عدالة تصون الحقوق وليس هناك قوانين زاجرة عندما يتعلق الأمر بمعركة تدور جولاتها بين الانس والجن دائما بل وأبدا، الكل يتفادى الحديث عن الموضوع ويبدي دهشة فكرية خارجة عن نطاق المنطق والخيال، الكل يتحاشى الجدل ويكتفي بالمسلمات الدينية كمعتقد وبالعلم كمعتمد، هناك فراغ معرفي سيده الخوف والتقية فحين يمكن ان يتعايش كل الأجناس وسط بيئة موحدة طالما الخالق واحد وغايته من الخلق واحدة.

 

لما كانت الغاية من خلق الجن والانس هي العبادة فلماذا هناك تباعد في التصور وتشكيك في هذا المنهج؟ لم تكن واقعة الخلق من مفهومها الديني وحتى الفلسفي التسابق نحو السيطرة والهيمنة على الأجساد والأرواح والتحكم فيها أو ايذائها وفرض عليها ما لا تهوى وتريد، أكثر من ممارسة الشعائر المطلوبة.

 

انها منهجية خلود بعد عودتها من وراء هذا الكون الغامض تؤمن بها لكن تعجز عن التحلي بها وتطبيقها في تناقض ذاتي صارخ، عادت وهي تشد الحبل الى جانبها متحدية من جديد كل شيء واي شيء وخصوصا سعيدة التي لعبت دور امرأة عزيز مصر أثناء غيابها، لتستشيط غضبا بعد أن علمت بكل ما وقع ولتقدف الرعب والتهويل شواظا من نار على قرين سمير الذي كان مقصرا في نظرها ومتأخرا في ابلاغها نازلة الخيانة التي زادت من اتساع رقعة الانتقام والضغينة لديها ، وهي العاجزة ان تعود للخلف لتغيير البداية لكن جبروتها في الأنانية يدفع بها للبدأ من مكانها هذا وتغيير النهاية .

لم يعد هناك من حاجز يفصل الآن بينهما فخلود استجمعت بقوة كل أسلحتها الذميمة وسعيدة مستعدة وتقف وسط أرض المعركة، معركة الموت من أجل الحب.

                                                                                                                       بعد اخدها حماما ساخنا تريح به نفسيتها المنزعجة باهتمام سمير بخلود اكثر من اللازم وحديثه كل حين عن غيابها الفجائي بكل فضاضة على مرأى ومسمعها دون مراعاة احساسها الذي يكاد ينطق ويقول: اعشقك أيها الغبي ، تغلق غرفة بيتها فهي لا ترغب في التحدث مع أي كان، خصوصا والدتها التي تعلم نيتها وتعي جيدا عزمها المسبق مع سمير الذي كانت لا تخفيه عليها وهي التي نصحتها ما مرة بالابتعاد عن هذا الهدف ونسيان هذه القصة التي لم تجلب لهم سوى المآسي ونفور العرسان، بعد تجفيف شعرها وارتداء ملابسها أحست بهواء ساخن يجوب الغرفة ، هواء لغته مفهومة لديها ، هواء يبث الرعب في النفوس ، لكنها بقيت هادئة ، بقيت ساكنة لم تحرك طرفا ، لم تلتفت حتى ، وبصوت يكاد يسمعه الأصم داخل هذه الرقعة الميتة والذي لن يسمعه في الأصل حتى من بالغرفة ان كان حاضرا ، صرخت :

 

-اعرف الاعيبك ،،،،أعررررف ألاعيبك.

-ضحكات متقطعة من خلود تنم عن كره دفين ونية خبيثة.

-أعرف.

 

انقطاع الكهرباء بالغرفة لم يزد الرعب في قلب سعيدة وانما على العكس تنفست الصعداء لأنها تعلم كل الاعيب الجن بل تنتظر نفس أطوار المقابلة الفائتة التي كانت فيها شبه قوية بشكل مقبول بل وكانت تتوقع أن تجد بعد هذا بقعا من الدم في كل زوايا وجدران الغرفة كأقصى ما يمكن لجنية القيام به، وتهديدات تم اختفاء كما يقع في كل روايات الرعب المولعة بها كمحبة للقراءة وعاشقة للروايات.

 

تضيء الغرفة من جديد، سعيدة تسرق النظر وتلوحه في كل ارجاء الغرفة بحثا عن بقع الدم التي يجب ان تكون على الأقل ولو في جدار واحد أو في مرآتها الموضوعة وسط الغرفة، تحس بأنفاس هادئة خلفها وهي تستنشق عطرا باريسيا فواحا، غاص فكرها للوراء وهي تتذكر من كانت تضع هذا العطر، خانتها الذاكرة وتعطل فكرها وبروية محفوفة بحذر شديد التفتت خلفها فوجدت “فاطمة” جالسة على كرسي كان موضوعا بجانب شرفة الغرفة، على وقع مشهد الذهول والشرود هذا سعيدة تتمتم:

 

 

 

-فاطمة ،،،فاااااط،،،،،، انا لم  أقم ب……أنت جنية، أنت هي خلود.

– أنا جزئك الأخير في الموت.

سعيدة تستجمع قواها التي خارت بعد ان رأت خلود في هيئة فاطمة، فلم يكن اختيار خلود لهذه الشخصية عبثا وانما لغاية في نفسها قضتها ،،،

-وأنا يا خلود هي تلك التي تموت من اجل مبدأ وغاية

-وأي غاية ؟

-أظنك تعلمين كل شيء، والا لما جئتني اليوم بلا هدف.

– ذكية جدا.

-وانت اذكى ،،،فقد توقعت منك حضورا كلاسيكيا ومرعبا كالذي نقرأه في القصص.

-حقا

-هذا دلالة على التميز.

-نبيهة انت ودلالة على القوة أيضا

-القوة قوة العقل.

-سعيدة ، انت كنت السبب وراء موت فاطمة

-أظنك بدأتي تفقدين ذكائك المصطنع

-اظنك تحاولين طمس الحقيقة سعيدة ، ما رأيك ان علم سمير بواقعة موت فاطمة الذي كان على يديك الآثمتين .

-لن يصدقك احد

-أو تراهنين.

-أنا ….لم افعل أي شيء وفاطمة كانت صديقتي بل كانت أختي .

-ما رايك ان اعيد لسمير شريط مكرك

– أهذا ابتزاز أم ترهيب ؟

-بل دعوة للسلم

-السلم ؟ سلم من جنية ههههه

-اسمعي سعيدة أن لا أود أذيتك ، بأكثر ما أود أن يكون لك قطعة من كعكة الانتصار.

 

خلود الآن تتكلم بما لم ينطقه سمير عن سعيدة في الأصل وتوصل أفكارا بغيضة عنها انها تستعمل معجما كلاميا لربما قد يدفع بسعيدة للانتحار وليس الانسحاب فقط، أصبحت تضفي على كل تصريحات سمير المزعم أنه تفوه بها أحداثا حقيقية عاشتها معه سعيدة خصوصا أثناء غيابها.

 

انها السفسطة والتغلب على موجات الدماغ الإيجابية التي تفيض كلما ذكر أي عزيز علينا حولت لها هذه الموجات الى سلبية لتبث الكراهية في قلبها ولتبعد منافسة شرسة تعرف انها مستعدة لعمل أي مصيبة الا ترك سمير.

 

تنويم ايحائي تحكمت فيه خلود بشخصية سعيدة واستغلت احساسها المرهف فبرمجت عقلها بمشاعر بغيضة، هذا هو الزاد الذي تزودت به خلود أثناء غيابها، لقد تسلحت بالذكاء والدهاء بدل كلاسيكيات الرعب والتخويف التي يتميز بها

 

عالم الجن على العموم، احتكاكها بعالم الانس حفزها على التسلح بالعلم والمعرفة لمجابهة العقل، الفكر والمنطق، استغلت كل نقاط ضعف وقوة الانسان، شجاعته وجبنه، صموده واستسلامه، نقائه وقذارته حتى تصل الى مبتغاها.

حالة من الاسترخاء وموجات من الهدوء تسلطها خلود على هذه الكتلة البشرية التي فقدت وزنها داخل هذا الحيز المغناطيسي، كتلة لم يعد لها أي وزن في عالم فيزياء الكم سوى الإذعان وبامتثال لما تنطق به خلود دون استفسار أو تعرض، لقد خضعت لجرعة من التأثير في المواقف والمعتقدات وحتى النيات، غيرت موقفها من كل الشخوص تحت مظلة نفوذ جنية كسرت قواعد أجدادها وحاورت البشر بالعلم والدهاء.

 

من الخسارة ان يسخر المرء اجتهاده ومواهبه الكبيرة من اجل غاية تافهة، ومن الضياع أن تستغل كل طاقة إيجابية للفوز بشيء لا يستحق حتى الذكر.

 

كانت خلود متحكمة في كل فقرات الحوار وكانت تصل الى الجواب الذي يقنعها وعلى لسان ضحيتها التي تحكمت في فكرها بشكل مبهر ووافقت على كل ما طلبت تنفيذه منها في توافق بين ارادتين خبيثتين جمعت بينهما ظروف حب عصي أفضى الى اجراء اتفاق بينهما خطه حبر خلود الغادر على ورق سعيدة التي سقطت فريسة سهلة بين أنياب المكر ووافقت على كل البنود دون شرط أو قيد ومقلتيها تفيضان شرارة وتلهفا للقيام بما تم الاتفاق عليه.

 

الفصل التاسع:

 

 اماط اللثام عن مشاعر طالما خالجته عن غفلة منه، وهو يلتقي بها بالعمل ودون ان يسأل عن سبب غيابها كرغبة منه ليربح كل ثانية وهو معها، تحدث واياها وبإيحاءات تعبيرية تعرب عن اشتياقه لها وقلقه عندما كانت بعيدة عنه، عرض عليها فكرة تناول الغداء بأحد المطاعم الشاطئية القريبة من مقر العمل فوافقت دون تردد وكأنها كانت تسعى للانفراد به وامتصاص ما بداخله من شوق اللقاء.

 

جميلة هي أحاديث مع بعد الغياب فسمير لم يفوت أي ثانية وهو يستمتع بلقاء تناثرت فيه أجمل العبارات وأرق الكلمات بمشاعر ترسم البسمة على الشفاه وتعود لتعطي من يعيش التعاسة املا جديدا في الحياة، سيل من الأشواق جرف قلبيهما بعيدا الى حيث لا شقاء، ليعترف كل واحد للآخر بحب كتمه أياما وشهورا بلهفة تشوبها نبرة من التردد والتلذذ.

 

سمير يمسك يد خلود ويذوب بين أمواج احاسيسها ونظراته اليتيمة في الحب ترقب كل تعابير وجهها الذي رسم عليه الشوق والفرح بحورا من الأسرار الدفينة يتقفى أثرها باحثا عن مفاتيح يقرأ بها سر جمال انثى أسرته بحبها منذ النظرة الأولى وامرأة يظنها قريبة من روحه التي سئمت قهر الوحدة والعذاب ،كم هائل من عبارات التغزل يفيض به لسانه وكأنه شلال جارف لا يعرف التوقف ولو بتوقف الحياة و الزمان ،سكون في الوجدان وراحة نفسية يسودها الحب والاطمئنان جديران أن يجعلا من سمير فارسا بلا جواد لجنية لم تسمع قط أشعارا في الرومانسية وسخاء ا في الكلمات وعيون ذائبة في لغة الغرام ومستسلمة لقدر وقضاء آلهة العشق كفيل ان يجعل من خلود أميرة لإنسي سعى وبقهر لحب أوسع من خياله ، تعبيرات متبادلة بلا حدود وهمسات في الآذان لم يسترق لها سمع ، نزهة الأذهان في عالم لا يخضع للتشريعات ولا يقبل الا العشاق للعيش فيه، تفردا بحكمه وهيمنا على قواعده ، توافق في الأفكار والتصورات وكأنهما روح واحدة انشطرت الى اثنين لتلتقيا من جديد، لتجمعا فؤادين من عالمين مختلفين، وقبلات مسروقة ينثرها سمير بصمت على ثغر مشتاق يسقي بساتينه الجرداء لتزهر ياسمينا بلا توقف كي ينعم هو وتحيا هي كلما التقت الشفاه بالشفاه ،أمضيا هائمين في التلذذ بعسل الحياة بعد شقاء في دهر بعيد ، هو يرغب في التجديد بعيدا عن أي تحديد وهي ترغب في التشديد بعيدا ان أي تفريط.

نزعتين مختلفتين من جنسين مختلفين خلود هدفها الامتلاك وسمير هدفه غير واضح رغم اعترافه بحبه لها وهو الذي يعاني من ادمان عاطفي، تعلق مرضي أصابه منذ وفاة زوجته فاطمة وأصبح عرضيا يتعلق باي شيء ينال اعجابه ما يفضي الى عدم فهم الآخر لحالته النفسية التي أخدت كل وصفات وعقاقير الطب النفسي لكسر هيمنة التفكير بالأشياء لديه، ينجذب بشكل لا ارادي وغير متحكم فيه لأي شيء يعير اهتمامه أو يشد انتباهه شدا.

 

غزارة الأحداث بينه وبين خلود يوما بعد يوم تزداد بوثيرة متصاعدة وتقارب عاطفي منقطع النظير يزيد فرحة خلود التي اعتبرت أن كل هذه الأحداث بداية حسنة في طريق صحيح ستبلغ فيه المرام وتتزوج فيه بإنسي استطاع أن يشعل فتيلة قنبلة الحب لديها.

 

 

 

 

ذوي انفجار قنبلة الحب هذا سيحصد كل روح بريئة تنتمي الى وطن سمير ذاك الجندي الذي سيدفع من دمه ثمن انتصار خلود قائدة المعركة، معركة سخرت لها جيوشا وحشودا من المكر وباتت تحسب لها كل شاذة وفادة قبل ان تخطو أي خطوة الى الأمام، حاصرت كل الثغور وسيطرت على كل الأهداف التي يمكن ان تعيق تحركاتها داخل الميدان وإنجاز ما عجزت عن إنجازه سابقا.

 

ماتت مشاعرها أمام أهدافها واحتضرت عواطفها امام جبروتها ولفظت شفقتها أنفاسها ما قبل الأخيرة واعترفت أن غيابها عن محيط سمير لم يكن اختياريا بل كان مفروضا عليها جددت من خلاله البيعة وأقسمت على إيذاء بني البشر من جديد وخصوصا سمير، فحصلت على عفو وبركة اجدادها من الجن والشياطين اللعينة وظفرت بطاقة خارقة لتستعملها في محاربة ألذ خصم لهم في الكون أو العدو الفطري للجن والشياطين، عفو ومباركة بمثابة فرصة بعد أن تم اعفائها من أي متابعة عقابية لا لشيء سوى لانتمائها الى عائلة من الجن عريقة في ايذاء وإلحاق الضرر والشرور بالإنسان على مر الأزمنة والعصور، فساد هذا عندما لا

يزجر المخالف وخرق للقانون عندما نتبنى ظروفا كالميز القبلي والعائلي ،،،آه،،،ما من عالم كيفما كان جنسه يخلو من المحسوبية والزبونية.

فرصة ثانية يعني اعطاءها رصاصة ستشق صدرا بريئا وقف قدره مجردا من كل سلاح ورفع يديه المصفدتين الى الأعلى مستسلما وصارخا:

 

 

 

-الى ها هنا فلتتوقف الأرض عن الدوران، فليبدأ تأريخ جديد فليبدا تقويم حديث، منذ هذه اللحظات فلتختفي كل عقارب الساعات حتى لا نضيع في هذا الزمان…رغم كل شيء…فلنترك كل شيء…فلنترك التفكير الغاشم ولنعش بعفوية الحب كل اللحظات، فلنبقي كل شيء جميلا كما هو دون تغيير…الى ها هنا فلتتوقف الأرض عن الدوران.

 

عذر أقبح من زلة ذاك الذي تعذرت به خلود امام ملوك الجان حكام عالمها، بأنها اقتربت من سمير لإيذائه لا للوقوع في غرامه وتمسكت بموقفها حتى أوهمتهم أنها ستؤذي سمير وعالم سمير دون أن تهتم بعاقبة هذه المخاطرة الجريئة والطائشة في آن واحد، لكن الظاهر الجلي أن سمير مستثني من هذه اللعبة القذرة التي رسمت لهم أحداثها بألوان قوس قزح لتجمل لهم الصورة الخفية التي تخفيها داخل نيتها السوداء التي أضاءتها جاذبيته العاطفية بعيدا عن كل كلاسيكيات ومذاهب الحب المتعارف عليها.

 

الفصل العاشر:

 

صراحة ما أجمل ان تكون شمعة تضحي وتذوب لتضيء ظلمات الآخرين وكلك اعتقاد أنهم يستحقون أكثر من هذا الضياء، سمير يقوم بالمستحيل لإرضاء والدته وأبنائه من جهة وارضاء خلود وسعيدة من جهة أخرى، فالكل مهتم به كما هو مهتم بهم وهذا خيط رفيع حيكت به مشاعر دافئة داخل منزله الذي اجتمع فيه كل الأطراف ما مرة لتناول وجبة الغداء او العشاء أو حتى شرب فناجين القهوة والشاي، ترابط غني المعاني وتقارب متين، حط الرحال بكل الأحاسيس والنيات باختلاف طبيعتها وطهر النفوس من فوضى الوسواس الخناس وأرداها نظيفة من شوائب الحقد والانتقام ،الا نفس خلود كانت ولا تزال أمارة بالأذى ،استغلت كل فرصة لتجديد هيمنتها  واحكام قبضتها على إرادة سعيدة بل ولتعبئة فكرها بسطور ورسائل خرساء ،كانت توجه نظراتها الثاقبة بتركيز الى مقلتيها التي تستقبل رسائلها المشفرة وتشعر بسواد صمتها وتفهم حديثها الذي علمت من خلاله أن هناك طلقات أخرى للقتل غير الرصاص قادمة.

 

ما شغف قلبها يوما حب الديار ولكن حب من سكن الديار، سعيدة المسيرة الآن بقوة خلود يقتلها حنين كبير ويقطع اوصالها دفئ عاطفي أشعل لهبا سوداء بداخلها، فقدت كل التركيز وبدأت تحضر لما همزت لها خلود من همزات شيطانية.

 

أصبحت سعيدة تدرس كل حركات من بالمنزل وترقب كل شيء… أي شيء… ترقب حتى حركات عقارب ساعة معلقة بحائط وسط المنزل، أصبحت مشوشة الفكر وتسافر بذهنها عبر عوالم الشرود تبحث عن وسيلة تطفئ بها شرارة كتمانها لحب تحول الى شبه نزيف داخلي، ألمه فضيع أرهقها حد الموت ودفع بروحها للسقوط من اعلى البروج فلا المسافة ولا حدة الارتطام آلماها بقدر ما آلمه اهتمام سمير الكاذب وسؤاله الباهت، وتصنعه اللطف والود منذ بدأ سيل زيارات خلود له بالمنزل بسبب ومن دونه ،زيارات جعلتها تعلم انها لم تكن يوما شيئا له منذ البداية ، كبريائها الخائن لا يتهم الأقدار بقدر ما يتهم قلب سمير …تكتفي بالدمع والحزن …تنتفض وتغير المسير… لا تريد من سمير أن يكون ظلا يصاحبها في الشمس ويتركها اذا حل الظلام …تمنت أن يزيل أحزانها لا أن يصنعها … لكن اهماله لها في دروب الحب أنهى كل شيء ظنته جميلا بالأمس.. تستسلم في آخر المطاف بحسرة لتلبيس وتدليس خلود.

 

السيدة رقية فرحة بهذه التطورات رغم تحفظها على زيارات خلود المترددة ولا تستسيغ ذلك مطلقا، تصك بغيظ بريء في نفسها هذا الموضوع حتى لا تكون سببا في غياب سعادة تراها بادية على محياه كلما زارته بالبيت أو التقاها بالخارج، تخشى القيام بأي خطوة أو التلفظ بأي كلمة، شدها نفور كبير من خلود أكبر بكثير من انجذاب سمير لها، حرصت كأم حنونة ان لا تفارق البهجة حياة ابنها مهما كانت النتائج، انها الأم.. هي كل شيء في الحياة هي التعزية في الحزن …الرجاء في اليأس والقوة في الوهن، كانت تتابع مسلسل الأحداث باهتمام وتمحص في كل كبيرة وصغيرة تخص ابنها ولم تغفل عن وجع قلب سعيدة التي كانت تواسيها بشكل غير مباشر حتى لا تبث لديها شعورا سلبيا بألم الإحباط ومرارة الفشل في استمالة مشاعر رجل تحبه، ضحت لأجله بوقتها وطردت من عملها بسبب غيابها المبرر بالتواجد على مدار ساعات وساعات بمنزل سمير ترعى وتهتم بكل ما يخصه وتعوضه نقص فقدان الزوجة وربة البيت، لكن هيهات ، هيهات انها هادئة هذا الحين وصامتة كالأرض لكن بجوفها الف بركان وبركان ، وعقلها الذي سيكبح جماح الشر لديها تشظى مثلما يتشظى الزجاج الى قطع صغيرة منذ ان استولت عليه روح الشر، بدأت تمارس النفاق والمسكنة على السيدة رقية بمنتهى الابداع وتسير بها بخطوات ممتدة بفاصل عمر كامل نحو الغدر ،تدبر لها مكيدة للتخلص منها في أقرب فرصة مواتية ودون أن تترك أي أثر ،تزيد من تقربها اليها وتطعنها بكلمات مزيفة من التودد ،تهديها أروع ما لديها من عبارات الاحترام والتقدير وكلها شجن ويأس في تأخير ما أمرته بها خلود واتفقتا عليه.

 

الصمت زينة النساء، يصنع ما لا يستطيع الكلام صنعه والبعد دواء يعالج ما لم يستطع القرب علاجه، جملة تختصر سيلا من مشاعر الخيبة التي فاضت بها روح سعيدة ومنعها الإحباط من ترجمتها على أرض الواقع بل دفع بها الى استدراج السيدة رقية الى سطح المنزل لأخد حمام شمسي واستنشاق نسيم نقي، ولتحاول تنفيذ أبشع جريمة قتل وخيانة غير ناقضة لوعدها واتفاقها مع خلود، أتعبت فكرها العجوز بهيستيريتها التي لم تخلو من الحديث عن سمير وهي تقول:

 

-خالتي رقية، إني أخفي حبا وشوقا وهياما بأعماقي واطارد لهفتي في الحب لأدفنها حية تحت التراب.

-بنيتي سعيدة، انت طبعا تعلمين محبتك عندي..

-خالتي رقية، نفسي كل يوم تقيم المآثم وطقوس العتاب والحسرة على ذل حب ناقص…ينقصه طرف ثان.

-بنيتي، مسألة وقت، سمير الآن…

 

تقاطعها سعيدة وعيناها مغرورقان بالدمع وبصوت أحباله يغلب عليها النحيب

 

-أي وقت …انتظرت بما فيه الكفاية

-فصبر جميل ..سعيدة تحلي بالقوة أنا في مقام والدتك وأشعر بكل احاسيسك أكيد سيعود.

– آه..آه … سمير كالأمس الذي لن يعود فما جدوى التفكير بأمل لم يخلق أصلا.

-بنيتي تعلمين انه يمر من وقت عصيب منذ وفاة فاطمة وربما تعلقه بخلود تعلق مرضي سيشفى منه، انه مواظب على العلاج، اكيد سيشفى، انتظريه فقط حتى لا يكون وحيدا.

– الانتظار امام باب مغلق أسوء من العذاب ذاته.

-ستفتح كل أبواب الخير.

-الا باب قلبه.

 

تقدمت السيدة رقية نحوها وحضنتها بقوة وعطف وهي تلاعب خصلات شعرها المتناثر في الهواء وكأنه سئم من هذه الأسطوانة المشروخة ويرغب السفر بعيدا عن روح وجسد أوهناه من كثرة الهم والغم.

ثربت على كتفيها وتقبل رأسها متعاطفة معها، تحاول امتصاص غضبها المتصاعد وتجفيف دموعها التي سقت رقعة الحدث مرارة وسآمة.

-بنيتي سعيدة، ستبقى هذه الدموع مجرد ذكرى من الماضي.

-ذكرى حزينة…تودين القول.

-بنيتي هدئي من روعك.

-هادئة لكن قلبي كتم، تعب وانفجر.

– كل ساق سيسقى بما سقى، انت سقيتنا ورودا وزهورا وأكيد سيبقى شيء من عطر الزهر بين أناملك، سيشمه سمير يوما وسيلتفت قلبه نحوك.

– واضح منذ البداية…. أنا لست بليدة.

-لا تثقي في البدايات فأصدق الأشياء تقع في اللحظات الأخيرة.

 

سعيدة تفقد السيطرة على جوارحها وتذرف دموعا أبت الانقطاع تتوجه راكضة الى آخر زاوية بالسطح تحاول الانتحار، تلتفت صوب السيدة رقية التي وجدتها مباشرة خلفها وبكلمات خافتة تطلب منها النأي عن إيذاء نفسها، تخبرها عن حقيقة خلود وعن جنسها الملعون وهي تترنح يمينا ويسارا بعد ان ارتمت عليها السيد رقية بجهد الشباب واحكمت الإمساك بها، استمرت بالترنح، بالانتفاض والالتفاظ بكل ما أوتيت من قوة حتى أصابها العياء من شدة الجهد والتعب ، فدفعت بها خلود نحو الأسفل حتى فقدت توازنها ورحبت بها الأرض وهي تتعثر ساقطة من اعلى البناية، عانقت الأرض جسمها النحيف مفارقة الحياة دون ان تشارك أحدا ما باحت به سعيدة من أسرار غير مفهومة عن خلود التي احتفلت بنخب هذا الانتصار الكبير وهي تتلذذ بصيحات وويلات سعيدة التي جمعت حولها كل السكان في موقف أضفى على سعيدة صورة المجرمة التي رمت بإنسانة بريئة من أعلى السطح.

 

رغم كل الماء السلسبيل الذي يجود به السحاب ويصبه في البحر، يبقى البحر أجاجا، هكذا هو حال بعض الناس وحال سعيدة لا يتغيرون مهما تكررت المحاولات ،كانت لحظة صبر في لحظة غضب ستمنع ألف لحظة ندم ، فقد كانت السيدة رقية سندا لسعيدة في شتى الأمور وأما لها في كل الظروف، كانت تسعى في الخفاء أن يرتبط بها ابنها ويكونا زوجين، مخيلتها نسجت سيناريوهات مختلفة في هذا الصدد، زكتها دائما بالدعاء لسعيدة بأن تكون من نصيبه، كانت متيقنة من ذلك ومتأكدة أن حب سمير لسعيدة سيأتي يوما ولو كالسلحفاة وسيرحل عن خلود كالغزال، لكن يبقى الحب مطبا والعاشق أعمى.

 

  الفصل الحادي عشر:

 

تهون العقوبة كثيرا إذا كانت لأجل من نحب، إذا كان بدوره يحبنا وتعظم في حالة العكس، من وراء قضبان البحث البوليسي تصيح سعيدة متمسكة ببراءتها وتخبر جدران غرفة التحقيق انها لم تقتل السيدة رقية بل كانت تنوي ذلك لكن لم يتيسر لها فعل ذلك، صياحها الممزوج بالبكاء والرثاء ولد الشك لدى المحققين ونقش في محاضرهم كلمات مبعثرة قد تكون حلا لفك لغز جريمة غامضة الدوافع، كلما كررت:

 

” أنا لم أكن عدوتك لكنك حملتني من العذاب ما لا يحمل الا لعدو، أنهكتني اهمالا وذبحتني على مشانق التجاهل حتى وقع ما وقع”.

 

كل الأدلة التي يتوفر عليها طاقم التحقيق بما في ذلك ما تم الحصول عليه من مسرح الجريمة من خصلات شعر كانت عالقة بين أنامل الضحية تبين وبعد نتائج الخبرة الجنائية انها تخص سعيدة، الى جانب محاضر البحث والاستماع الأخرى لبعض من الجيران وشهود الفضول، كلها تورط الظنينة ولا تترك لها أي فرصة للنجاة من العقاب والمتابعة القضائية، بحث جنائي معمق وتمديد للمراقبة القضائية من اجل رفع اللبس عن ظروف وملابسات النازلة خاصة بعد تردي الحالة الصحية لسعيدة التي تم نقلها الى مستشفى تابع لقسم الشرطة المكلف بالبحث معها.

 

 متابعة طبية متزامنة مع أخرى قانونية متعطشة لإغلاق القضية في أقرب وقت بسبب الضغط الذي مارسه سمير على جهاز الشرطة الذي استدعاه ما مرة وحقق معه بشكل مبالغ فيه بسبب ما تنطق به سعيدة.

 

سمير تحدوه رغبة متلهفة  من أجل معرفة كل خبايا الجريمة وأطوارها، يساوره الشك أن تكون سعيدة وراء اقتراف هذا الفعل الجرمي ،انتدب لها محاميا من اجل المرافعة والدفاع عنها خلال جلسات الاستماع والاستنطاق ، قدم ملتمسا بصفته من ذوي حقوق الهالكة ومبرئا لسعيدة  يطلب فيه تمتيعها سراحا مؤقتا واستدعائها لمباشرة أي تحقيق متى ما لزم ذلك، عله يستفرد بها ويطرح ما لم يستطع ربما المحققون طرحه عليها من أسئلة، في ظل منع أي زيارة لها الا بعد إتمام تدابير التحقيق الاعدادي، كان الشك لديه سيد كل فصول المتابعة، راوده آلاف المرات وهو يبحث عن مربط الفرس في هذه الصفعة التي أخدت منه أغلى الناس وأرجعته من جديد الى محطة الشجن واليأس التي جاهدت خلود محاولة أن لا يقع فيها بوقوفها معه في هذا المصاب وتقديمها له كامل العون والدعم النفسي ،قدمت له كفنا باردا هدية لروحه المسلوبة، وأذاقته من كؤوس عشق شيطاني وسادي فهي ترى في حبه ما ترى ليلى في قيس حتى باختلاف زوايا الرؤى وصفاء العيون.

 

سمير في حيص بيص من أمره، يتخبط في دوامة من الحزن ولا يعرف شرح غياب والدته عن أحفادها الذين لا يفوتون أي مناسبة الا ويشرعون برمي سهام من الأسئلة الموجعة التي تستقر كرؤوس الابر في الفؤاد وتزيد من ألم سمير الذي اتخذ الصمت جوابا شافيا لكل سؤال تلتقطه أذناه الصماء، فرب سكوت أبلغ من كلام عندما يغيب الجواب.

 

أحيانا يكون الحب من طرف واحد أصدق حب، وأوجع حب، تشتاق فيه لشخص يشتاق لغيرك، تكتب فيه عن شخص يكتب لغيرك، تغني، ترسم، تحلم، تعانق وتقبل شخصا هائما في تقبيل غيرك وأخيرا تجد نفسك تحب في أقصى الاجبار انسانا لا يدري أي شيء عنك أصلا، تخطط للوصول الى قلبه وقد تدفع أي ثمن وتخطئ أي خطيئة، ترتكب أي زلة في حقك أو حتى في حقه أحيانا، وهكذا هي العواطف المكتومة لا تموت أبدا ،تبقى موءودة وتظهر متى وجدت البيئة المناسبة لها بطرق بشعة وتكون النجاة الوحيدة هي اقفال باب القلب الذي لن يصل من أسفله سوى الغبار..لن تصل من أسفله طبعا رسائل الحب أكثر من وصول طرود الآلام والأحزان.

 

مغادرة سعيدة للمستشفى واستمرار تردي حالتها الصحية لم يثني أجهزة القانون من استكمال كل الأبحاث المنوطة بها فعلى مدى جلسات متعددة كان سمير لا يفوت مرافعاتها وصولا الى آخر واحدة حيث دوى منطوق الحكم أخيرا ملفا جنائيا ظل غامضا وسريا من حيث التحري والوقائع وتقرير الطبيب المتابع للحالة الصحية لسعيدة حاضر بقوة، منطوق هز صداه قاعة المحكمة التي ارتجت بصراخ سمير …

 

-القاضي ومن وراء نظارات تخفي شرا متطايرا ينطق:

 

 “باسم العدالة والقانون، باسم الحياة والموت، باسم الشرف والقيم الإنسانية، قررنا نحن بصفتنا منفذا للقضاء والقدر ادانة المتهمة ومتابعتها بجريمة قتل روح بريئة انتقلت من عالمنا السرمدي الحالك الى عالم النقاء والايمان، وبإحالتها على مصحة للأمراض العقلية والنفسية واجهاض الجنين الحامل به لاضطراب المتهمة نفسيا وحفاظا على السلامة والحياة ووأد حياة كل ابن زنى تطهيرا للعرق البشري، يطبق حكمنا السامي هذا دون اعتراض أو استئناف”

 

في تلك اللحظة الفاصلة بين الانتقال من سلامة العقل الى فقده، تنهار سعيدة لدرجة لا تستطيع معها البكاء والمقاومة وبداخلها رغبة في الحديث دون وعي، ورغبة في البوح لسمير دون توقف، ورغبة في الصمت الى ما لا نهاية، لأن كلامها أمام المحققين عن تجربتها مع واحدة من الجن واتفاقها معها على قتل والدة سمير لتظفر بحبه بانفراد تام هو ما جعل منها انسانة في نظر الجميع فاقدة للعقل، الأهلية والادراك، مزكية ظنونهم بعد اتهام القاضي أنه خلود الجنية متجسدة في صورة انسي.

 

سمير لم يعد يعرف من أين يغادر قاعة المحكمة وكيف، وكأنه وسط دهليز كل ممراته مليئة بسيوف الهم الباردة التي تطعن كل ضلوعه الدافئة، يحصر الدمع ويزيده على دمع قديم طالما حصره، وكرها يذرف دمعة انزلقت بسرعة الضوء على خده الأيمن خوفا من أن يفتضح أمرها، آه كم هي مؤلمة تلك الدمعة التي ترفضها الخدود وهي تحاول التخفي عن الناس منذ فترة طويلة تم تسقط في لحظة قهر واستسلام ملامسة أرضا طالتها نجاسة خلق أشرك بخالقه.

لا شيء أقوى من القوة سوى الدهاء وبه غلبت خلود سعيدة وأزاحتها من على طريقها، ولا قوة مائية في الكون أقوى من دموع المرأة عندما تفشل في الحب وبه ذاقت سعيدة الفشل وأنهت الحرب بخسارتها بسرعة.

 

الفصل الثاني عشر:

 

من عابد الى عابث، ومن شخص يؤمن بالأقدار الى ملحد بها، ترميه رياح العبث وآهات الفراق بين أحضان الحانات، يقارع كؤوس الخمر ويشكي لها حاله، يحارب سواد الليل بشمس زائفة، ويضيء مصباح الأقدار في الظهيرة بحثا عن الحقيقة، يلف كل زقاق وزقاق فيرتمي مستسلما بين مفاتن خلود الزائفة يرتشف منها ما ينسيه مرارة الأيام ومعاناة فلذات الأكباد، كل يسير على شاكلته وما الخاسر في الحرب كالمنتصر فيها.

 

استفراد خلود بسمير انتصار على بني البشر الذي طالما هزم بالإغواء والتغرير، منذ الأزل يخسر المعارك الواحدة تلوى الأخرى دون حشمة وحياء، دون أدنى احتكام للعقل والايمان، ملايين الأشواط قطعها هدرا وضاعت هباء منثورا في الزمان دون أن يعي الدرس ويحفظ القواعد التي من اجلها كان الاستخلاف، أدية عرق الشيطان للإنسان مستمرة باطراد مع توجه أسهم الزمن الى الأمام وهو العرق الوحيد الذي لم يخن الميثاق ولم ينقلب على العهد الذي أقسم به الشيطان للمولى عز وجل والتزم فيه الحاق الشر والايذاء لكل مسبح عابد قانت، انه الجنس الوحيد الذي يمكن ان نتعظ بهم في حفظ أمانة العهد التي ينتقدها الكثير منا بسبب ومن دونه أو بعلة ودونها.

 

وهكذا دواليك، خمرة لنسيان الواقع واحتجاج أمام أبواب القدر وارتماء بين أحضان انسانة زائفة أوهمت سمير أنها الملاذ والجنة الخالدة، وكواليس قادتها تبصمها ليالي حمراء يستحي الحبر توثيقها، نوم طيلة النهار وقتل للرغبة، وحدة مغلفة بالعذاب وعض على الأنامل على ما فات، يرتمي بين أمواج الذكريات وبين ثنايا الوجدان يقبع فكره حيث ظل يرافق كل الأحداث كأنها حلم في ليلة سرمدية..حلم بمذاق العدم ونكهة الأسر ولمسة من شجن، يباغته الحرمان فيهرب بعيدا فبعيدا..يأكل الفقد فؤاده الذي لم تندمل جروح آهاته بعد فيعيد ترميم ذاته المكسورة بتقليب صفحات الماضي نحو الأمام في ذاكرة مرهقة تغيب عن شعورها ولا تطيل المكوث خوفا من الاحتراق بنار الأسى وخبث الأيام، تلفظ روحه روحها وتشيعها في خفاء تتوارى فيه عن الحاضر والآتي القريب البعيد حتى تطمئن أنها رحلت دون عودة لترحب بالتقاء صوت العاطفة بصوت العاصفة.

نفس سمير أضحت عاصفة هوجاء لا أحد يستطيع ايقافها تجرف كل شيء في طريقها بكل هوادة لم تعد الرحمة منهاجه ولم يعد التبصر شريعة له، يتخبط يمينا وشمالا تائها في بحور أغرقته فيها خلود دون أن تعلمه فن السباحة، رمت به في حياة دامسة يمكن أن يشتري منها أي شيء الا الوفاء.

كل يوم يزور المعقل الصحي حيث ترقد سعيدة ويرقد معها سر وفاة والدته، يتردد في الولوج ويكتفي بمراقبتها بعيون جاحظة أتعبها دمع لا تطلع عليه الخدود، فرب مراقبة بائسة خير من ألف محادثة باردة تقلب المواجع لا أقل ولا أكثر، كان يرقب امرأة كانت بالأمس قوية لا تتقمص دور الضحية ولا تلعب دور

  

الضعيفة، امرأة لا تثير الشفقة ولا تشير بأصبع اللوم لأحد بل كانت دائما تقف وقفة حديدية حتى يخالها الواحد أنها كليوباترا أو بلقيس اليمن العظيم.

 

يوما بعد يوم وزيارة بعد زيارة دون لقاء بدأ يعتريه ذبول الامتناع من زيارتها بشكل فعلي وبدأت تنطفئ معه تردداته التي كانت ظنونا تعرقل وقوفه من جديد لمجابهة قدر اللقاء الذي سيمحي جزءا من حزن راكمه بالأمس، يقف من جديد وهو لا يخشى السقوط من دوار الأسئلة الخانقة، يضيء سيره بهاجس الرتابة وسط ممرات المعقل الصحي بجهد حمل نفسه عليه بعد أن كان متحمسا لأبسط ثانية يقضيها في الجلوس معها وسبر أغوار نفسها.

 

بعد استيفائه لكل الإجراءات الإدارية على مضض، يستعد الآن لمواجهة أكبر علامة استفهام في حياته وبكل ما أوتي من مرونة نفسية يعانق سعيدة ويقبل جبينها وسط لحظة من صمت رهيب في الطول، صمت ينوب عما يخالجها من حنين يجعل من كل الأشياء وقائع مملة، يجعل من الحديث مشاكل ومن النظرات كلاما ملغوما، حنين بوجع عشوائي لا يزور النفس باستئذان بل تراه راكضا مسرعا يجوب في تعرجاتها وينبش فيها عن ذكرى قديمة رحلت كل ملامح أصحابها فيعيد برمجتها في البال ويعيد دقاتها الى القلب بوجع كبير، حنين لا يفرق بين دقيقة أو يوم أو حتى قرن فحجم الاشتياق في عرفه يفوق عامل الزمن لكن تبقى على ما يبدو الأيام وحدها القادرة على تمزيقه.

 

 عناق يعبر عن لحظة حب عاشتها سعيدة بررت بها عمرا كاملا من الانتظار وشعرت فيه بألم الفراق الذي لا يقارن بسعادة تجدد اللقاء، كسرت كبرياء المرأة التي تمتنع وهي راغبة، حضنته بشدة غير متوقعة وفيض من حنين الأحلام يسيل من روحها فهمست في أذنه بلسان أخرس: -أنت وطني وان غبت عني أشعر بالوحدة، فرقت الطرق بين الكبرياء والشوق حتى لا يلتقيان وتعجز عن قراءة رسائل قلبها المتيم والمجروح وكلها خنوع وخضوع، فبئسا لشوق قادر على قتل العاشق ألف مرة دون أن يجرح المعشوق، وتبا لمن نهديه قلبنا وفي حقيبته عشرات القلوب.

 تنهدات تجمع بين فرح وحزن وتتبدد في السماء راجية العطف والعودة الى الماضي لتغيير شريط الحاضر والمستقبل هيمنت على المشهد وألجمت الألسن تاركة النظرات تحكي بشغف وتجيب بنهم، فكثيرا ما تبوح العيون ونظراتها بشيء تاه اللسان عن قوله وتحكي أشياء ظلت سجينة في الفؤاد، فمهما طالت النظرات تبقى لغة جامدة تحتاج صوت المعذب في الهوى برهانا، صوت مقهور تؤلمه نظرات المعشوق التي تحمل العتاب دون كلمات وتتحدث بلغاتها المتنوعة لتكون أجمل من ألف رسالة لمن ترمي حبها في جحيم العشوائية، فما من قهر أقسى على عاشقة من تبخر بريق الحب في نظرات رجل لم يحبها قط، وما من عذاب أليم على المرأة أكثر من تعاطيها مخدرات ابتسامة رجل متعاطف وليس بعاشق، فنظرات وابتسامة الحب الحقيقية أصبحت لا ترى الا على عتبات المقابر والمستشفيات فالإنسان أصبح لا يتذكر من يعز الا عند حافة كل نهاية يطبعها ذلك الصمت الأنيق الذي يرفض أن يتلطخ ويبوح بالأوجاع.

 

 

تجلس قبله على كرسي الاعتراف وكأنه استسلام منها، تبدأ في فرك يدها منتظرة أن يبادرها الكلام وهي تعلم أن صلاحية الكلمات لديها شرفت على الانتهاء ويجب أن تطرحها أمامه، كلمات ان بقيت بداخلها ستقتلها وان خرجت فسامعها مقتول فلا في الصمت راحة ولا في البوح راحة، تتعثر لديها الأفكار وتأبى الترجمة الى عبارات، وخوفا من ندم البوح فضلت وجع الكتمان وأنينه الذي امتصه سمير بتعابير وجهه التي أصحت حياة ميتة بداخلها وحركت لسانا عجز في الماضي عن النطق بكلمة أحبك جهرا في وجهه.

 

-بدوري أحبك.

-أراها كلمة مجانية.

-لا يوجد ما هو اغنى من شيء مجاني.

-سمير..اعلم أن الكذب لا يمحي الحقائق بقدر ما يفرضها والحقيقة أنك لا تحبني.

-سعيدة كنت انسانة وفية لنا كأسرة و..و…

-وماذا ؟

-رفقا فكل أفكاري هجرتني وكل الكلمات غدرتني.

-آه تعبت من كل شيء حتى من دقات قلبي فهي عدوة تدق لأجلك.

-لأجلي ؟..أنا

-رجاء انتظري…أنا لا أعي ما تقولين.

-رباه، انتظار وانتظار مرة ثانية، ذلك الطقس المرهق من طقوس حياتي اليومية.

-أي طقس ؟

-طقس حبي لك الذي كان قمرا يزور سماء قلبي كل ليلة.

-أنت تهذين…

-سمير ان رقودي بجناح الأمراض النفسية مكيدة دبرت لي وأنا في كامل قواي النفسية والعقلية وأنا أقوى من ذي قبل ودليلي في ذلك أني تجرأت وصارحتك بحب دفين كتمته لأيام، لشهور ولأعوام. وها أنا أضأت الظلام.

-سعيدة لا يضيء الظلام الا ظلام مثله.

-كنت أتقرب منك في كل فرصة لكنك كنت تتجاهلني بانتقام راق جدا، كنت تشعر بهمسات قلبي التي كانت تنطلق سهما ناريا في اتجاهك، كنت تحس بمشاعري نحوك وكنت تخنق أي إحساس يمكن أن يولد فجأة، فاكتفيت بك حلما وتمنيت من الأماني أمنية واحدة ستحقق لي باقي الأمنيات التي رسمت بفرشاة الأمل طبيعتها وفي قلبي عتاب كبير واشتياق لنفسي التي سجنتها وكنت جلادها.

وها أنا أعترف أني فشلت في استمالة قلب وسقطت في بئره منبع كل ماء راكض.

-أوووه سعيدة …. أيتها الأقدار، اللعنة أي صبر تريدين، سعيدة كان الأجدر أن تسقطي في بئر نفسك فالماء في أعماقها أشد عذوبة.

-خاب ظني فيك ولا شيء أجمل من السكوت عندما تخيب الظنون.

– سعيدة افهميني كما يجب لكن لا تحمليني ذنب سوء فهمك.

 

 

 

 

– أشعر أنك لم تأتي لزيارتي الا لغرض في نفسك لم تقضه بعد واني شاكرة لك كل ما قمت به للدفاع عني، فهل يمكنني الانصراف الآن.

– جئت لأكسر قيود أحزانك.

– قيود الحب أولى بالكسر، وما هناك من شيء أحزن عليه فما أراني خسرت قلبا لم يكن ليحبني يوما، هو من عليه أن يحزن فقد خسر قلبا تنفسه هياما ولا يزال. لماذا لم تتعلق بي مرضيا كما تعلقت بغيري.

– سعيدة أظن أن وقت زيارتي لك شرف على الانتهاء، احكي لي كل شيء أنا أؤمن بك، أقدرك وأصدقك.

-أجزم أنك لن تصدقني بعد الآن.

– كلي آذان صاغية.

-سأتحدث كما تريد وسأكتوي بحديثي لكن اعلم أني سأظل أحبك بجنوني وغيرتي وعنادي، بغضبي وأتراحي مهما اتخذت من موقف.

-سعيدة أرجوك.

-سمير اني أحمل بين أحشائي جنينا من صلبك…نعم هو من صلبك أتذكر حين طلبت وتوسلت مني أن أوضح لك ما فعلته بي ..أتذكر ..لقد خدرتك وأهديت نفسي عروسة لك .

 

 

سمير ان السيدة رقية امرأة عظيمة وتحبك كثيرا، وأقسم بحبي لها ولك أني لم أؤذيها وبريئة من دمها براءة الذئب من دم يوسف، آه رباه..آه سمير ربما كنت سببا في وفاة فاطمة أنا من دبرت مكيدة الموت وأقمت  حفلة على شرفها، انا من قمت بالتخطيط لذلك للتقرب منك لكني فشلت ورغم ذلك اعتبرت أن الفشل هو الفرصة التي تتيح لنا البدء من جديد بذكاء أكبر وبنتائج أحسن وها هي واحدة من نتائجه: القبوع بين جدران العقوبة.

 

سمير ان خلود ليست…. سمير ان خلود تخنقني بشدة أحس بم بم… بمرارة كرهها.

كانت خلود حاضرة في كل المشهد، كانت روحها الخبيثة تجوب أذهانهما وتصغي لحديث العاشقة وهي تنظم قصائدا في الحب وتهوي بعبارات العشق التي كانت فأسا يهوي على قلبها الذي هو الآخر أحب سمير حتى الجنون.

 

سمير بفك متدل الى الأسفل وعينان بارزتين، انهالت عليه صدمة سعيدة التي اعترفت بتدبير مقتل فاطمة وبمشاركته الفراش والحمل منه، لا يكاد يصدق ما يسمع ولا يكاد يعيش ما يرى من قوة الاستغراب والدهشة.

 

تتهاوى الى الخلف من على الكرسي الذي كانت تجلس عليه وتتساقط ببطيء وكأنها ورقة خريف ميتة، تسترجع كل شريط حياتها القاتم، وتستعرض كل أحداث حياتها الآثمة، بسطت يدها اليه تستغيث وتطلب توسطه لدى ملك الموت دون أن تفلح، قاومت السقوط ورفضت الامتثال له، لكنها استسلمت لبطشه وعانقته وكأنه الملاذ، بعد أن انفجر لسانها بكلمات جامدة عانقت روحها وأنشدتا:

 

“أحببتك أكثر من حبي لنفسي، تعلقت بك أكثر من تعلقي بأي أحد في هذه الدنيا الغادرة، أغار عليك بشكل لا يوصف، بشكل كارثي، بشكل جنوني، أرجوك ابق بخير لترقد روحي في سلام”

 

الفصل الثالث عشر:

 

ضعف الطالب والمطلوب، سعيدة هزت الرحال من حياة بائسة ورحلت روحها اليائسة مجبرة الى منفى الأجداث، انها الرحلة الوحيدة التي ينسى فيها الانسان كل الهموم وينهي بها كل متاعب الحياة، ثقب آخر كبير في حياة سمير وليس في يد القدر خيط وابرة ليرقعاه، انه الموت الصامت والأشد ايلاما وحرقا لنفس تفترس الجسد والروح، وتقتات على الطاقة والايمان وتلجم اللسان عن الصراخ ألما، موت أرحم من حياة كانت تبدو كما البحر هادئة في مشاعر أصحابها الدفينة لكنها في الأصل تخفي داخلها حيتان القلق واليأس والعذاب الشديد البطيء.

 

المرأة كمان لا تصدر ألحانا شجية الا لرجل يتقن صراحة العزف على أوتار قلبها، لكن سمير خرق القاعدة فعزف لحنا حزينا على أوتارها الصدئة عندما قلب عليها مواجع الحب وتهرب في كل الحوار من فخاخ الغرام التي فاضت به لأجله وهي تعلم بحدس مخادع أنه لا يحب خلود ، بل يحب الطريقة التي تأتي بها لتملأ أماكن الفراغ في حياته فقط ولتستوطن قلبا فارق الحياة منذ توفيت زوجته، وتسيطر على مشاعره التي أصابها الشلل وأصبحت تنحدر نحو أسفل نقطة في الروح وكلها ايهام سحري أنها المرفأ الوحيد لسفينة أحزان سمير التي ضاعت بين عواصف الفراغ وتركت في أعماقه حيرة وسؤال لماذا….؟

 

هامت روحه المغتصبة على أعتاب من رحلوا ونسجت هدوءا مدويا عم كل أيامه الحزينة كذاك الذي بالمقابر والذي لا يعني مطلقا أن كل الموتى في الجنة، جاشت نفسه أنينا وطلبت من قلوب الرحمة سماعه فهي الوحيدة من تستطيع طلاء صدأ ألم دفين قديم جديد، ألم أصبح يراوده كلما رأى من عشقهم يوما ليسوا معه..يتألم عندما يعجز عن البوح عما في وجدانه..يتألم في كل أوقات الوحشة والاشتياق لهم وهو لا يقدر على التفوه بكلمة ” اشتقت لكم”..يتألم في صمت ولا يعرف هل هو من يعجز عن النطق أو أن النطق هو العاجز أصلا.

 

جثة هامدة غادرت عالم سمير وهي تتراقص على أنغام حب حزينة كل نوتاتها كتبتها خلود بدم الغدر، عزفتها ملائكة العشق بإحساس مرهف وهي لا تعلم ما عانت هذه الجثة في غياهب سجون الود، وعبودية العرافات والسحرة وما عاشته من رعب تحت صليل سيوف جنية ماكرة أنهت حياتها كما تنهي النار الحطب وجعلت سمير لا ينال من نظرة الوداع الأخيرة لسعيدة سوى الوجع.

 

أينما يتواجد الحب يتواجد العذاب وتتواجد أرواح مقهورة تطلب النجدة منه وفك قيوده المؤلمة، سمير عذبه حب فاطمة والسيدة رقية عذبها حب ابنها الوحيد وخوفها عليه وسعيدة وخلود عذبهما حب سمير، ومهما اختلفت درجات العذاب يبقى الحب هو قيامة الأرض العظمى وجحيمها الذي يدخله كل من طرق باب العشق ولو عن طريق الخطأ.

 

لسان القدر يلوم نفسه ويبشر سمير أنه يوما ما ستهب رياح العدل لتعصف بغبار المكر الذي حجب الحقيقة من الاشراق وجعلها شيئا صعب المنال بعد أن زيفت خلود كل الوقائع بالخديعة وجعلته يذم، يسب، يلعن ويكره سعيدة بل وصل به الأمر حد نبش قبرها ليحقن جثتها بسم الانتقام، ويداوي نفسه المكوية بنار الفراق بترياق الثأر علها تتعافى من جروح اللوم التي ظلت رماحا حادة تطعن أوصاله التي أصبحت مجرد أطلال تحكي للأيام ما أخد منها الدمع والحزن.

 

خلود تتباهى انها تجاوزت الألف ميل وتجزم أن ما من شيء بقدرته الحاق الهزيمة بها وهي تخطو الخطوة المتبقية، بعد أن أزاحت من طريقها سعيدة وحكمت عليها بأقصى العقوبات من أجل “جريمة عشق” رجل عشقته بدورها ولا زالت تتحرش بمشاعره التي زادت تعلقا بها بعد أن أصبحت ساحة النزال فارغة عن آخرها سوى من جثت الأبرياء.

 

على شاطئ البحر يسيران حافيي القدمين بأيادي متشابكة وجسدين متلاصقين ينبعث منهما شوق هذيان الحب الخاطف والتعلق الباهت وسط حنين لا يقبل المساومة في جوف قلوب خافقة بالعشق، أقسمت خلود أن تكون من سيدات الوفاء بعد أن خانت وأن تصون الحب بإخلاص مهما تزاحمت الأقدار على أبواب الفراق، وبعد ان اقتنعت بسطوة الأشواق وبحتمية الوفاء نطقت بصوت متأثر:

 

-حبيبي سمير ان وهج الحب يجب ألا يختفي من حياتنا.

– ان قدر هذا الحب مكتوب، علينا فقط العيش بهدوء حتى لا نزعج القدر فيزعجنا.

-الآتي كله سيكون جميل، سمير تذكر وجودي في حياتك وستفرح.

– أحاول ذلك مرارا وتكرارا وأعيش فرحا ما بعده فرح فتقودني نفسي ورغما عني الى سجون الماضي المؤلمة.

-الماضي قوت الأموات وأنت حي بحبي لك.

– آه يا خلود، ما من وجع كبير كوجع فقد روح لن تراها مهما بكيت.

-أعرف أن أمك ستبقى القصيدة الأجمل في حياتك لكنه القدر شاء وفعل.

– القدر ثانية يلاحقني حتى في الحديث.

-نعم القدر وتلك اللعينة سعيدة التي رسمت على جدارها كل آمالك حتى سقط عليك، كنت دائما أنصحك بطردها من حياتك أتذكر؟

-سحقا لغادرة لا تستحق حتى الموت، فلتذهب للجحيم.

– فلتزل من وجهك هذا العبوس.

-ان وجهي هذا كان الحرب كلها والألم كله.

-وقلبك كان الحب كله والود كله لا تنسى ذلك وتضعف.

-مهما كان الانسان قويا يمر أحيانا بلحظات يشعر فيها بالضعف فيبحث…

-يبحث عن الحب ،،،أنا أحبك، أحبك.

 

يقف سمير عن المشي ويتنفس ملوحة نسيم البحر ونظره يسافر عبر امواجه العاتية فهمس في أذن خلود بكل رومانسية:

-منذ ان عرفتك عرفت أن للغرق أسباب أخرى غير الماء، واني أحببت خيال الحب معك حتى نسيت مر الواقع.

ان أسعد لحظات الأنثى هي اللحظة التي تتحقق فيها أنوثتها، وتجبر فيها رجلا عن طيب خاطر أن يطلق من مدفعه أولى طلقات عشقه الحقيقية لها ويعلن استسلامه أسيرا في مملكة الغرام.

تلقت جملته وصراخ داخلي يهز جسمها ويصيح صامتا:

وأخيرا يا خلود.

تماسكت بعد أن غاصت تجوب في البحث عن عبارة تليق بعاشقة دب العشق في كل جسدها كدبيب الخمر، وتشاور نفسها كيف ستتقاسم معه ما تخفيه له من مفاجأة الفراش فردت:

-حبيبي أحبك، أحب كل أوصالك، أحب عيونك التي أقسم أن لو رآها الحب لدق أجراس الكنائس ولصاح من المآذن حي على الجمال، حبيبي أكيد أنك ستسعى للفرحة أينما كانت وكيفما كانت.

-سأطلب السعادة ولو بالصين.

-أريد أن أخبرك شيئا سيسعدك، سمير إني أحمل بين أحشائي جنينا من صلبك،، أنثى من صلبك.

-أنثى، حامل، أحشائك

-أنا حامل يا سمير لا أمازحك.

-…. لم أجد فعلا شيئا أقوله يليق بهذه المناسبة، ولأن صدمتي ركبت قطار العجل سأضمك الى ما لانهاية، سأقبلك الى ما لانهاية، سأرقص معك الى ما لانهاية والى ما لا نهاية سأظل متعلقا بك.

-أنت جنتي حيث أطلب الوصل.

-ستكون مؤنسة لفلذات أكبادي أليس كذلك يا خلود؟

-بل إني قررت أن أسميها “رقية” أحب اسم الى قلبك، وجنتك الجميلة والخالدة.

-نعم، أكيد، حقا، فالقلب إذا أحب شيئا رأته العين جنة خالدة.

-هذا ما وددت ايصاله لك حبيبي.

-اشكر لك طيبتك فهي منحتني ابتسامة وسعادة، ويجب الآن أن نوثق زواجنا لتكون كل الأمور في صحيح مجراها.

-أحقا.

-أو ترفضينني عريسا هههه.

-هههه…

 

 

 

الفصل الرابع عشر والأخير:

 

وتبقى دائما في العرف أن مقبرة الرجل هي كل امرأة خبيثة لا ترحم ضعف الإحساس وطيب المشاعر التي تزخر بها كل القلوب الصافية التي كالذهب لا تصدأ مهما أنهكها دهر النوائب، وغرز أنيابه وحقن سموم الغدر والنذالة فيها، قلوب بلغت الذروة في الصفاء وتغنت بالأمل بعد أن عرفت أن في رحم كل شتاء ربيع قادم ووراء سواد كل ليل فجر بازغ.

 

زواج سمير من فاطمة كان كوب عسل والثاني من خلود كوب خمر، أفقده الصواب وجعل روحه في التمييز تموت من الداخل نتيجة تناولها الدواء الخطأ لفشلها في تشخيص مرض قراراته المتهورة في علاقته مع خلود منذ قرر عقد القران بها والزواج منها بشكل رسمي، كيف لا يكون ذلك؟ وقد بلغا من الحب ما بلغاه وفاتا به كل السماوات، فوصلا به الى سدرة المنتهى وكتبا على بابها نيابة عن كل العشاق:

 

“الزواج ميثاق بين قلبين هائمين في حب بعضهما البعض، الزواج وصل بين نفسين تذوب الواحدة منها لتغذي الأخرى، الزواج مزج بين روحين تكمل الواحدة منها التانية، الزواج تقريب بين جسمين يسبحان في فضاء العشق دون توقف، فيا أيها العشاق تزوجوا فالزواج هو الحب”.

 

 

ان للماضي حنين في قلب سمير رغم كل الصور الجميلة التي أصبحت عليها حياته بعد ارتباطه بخلود، ماضي ليس له رجوع مهما بلغت روعته، يتذكر بسببه فاطمة كل يوم ويزيد من تذكرها في كل مرة يصوب فيها أبناءه سهم ذلك السؤال المتكرر والموجع عنها، الذي يحفر آلاف المسافات في الزمن ويسرح بخياله يشق السنين ويرجع بخيبة أمل لواقعه المرسوم حقيقة بألوان الزيف، فالرجل كطبيعة مهما عرف من النساء تظل هناك أنثى واحدة متربعة في قلبه، يبقى عاشقا لها ويحن اليها ولو عاش مليون قصة حب بعدها.

وسط هدوء مصحة الولادة الذي تكسره بعض صرخات ألم الوضع والانجاب، يستعد سمير لمعانقة مولودة جديدة، اختارها لأن تكون شمعة يضيء بها حلكة عالم صغاره، ويردد بفضلها اسم والدته “رقية”، الاسم الذي يحمل له كل معاني الحياة والحب، تقترب منه الطبيبة المسؤولة عن عملية التوليد وتسأله:

-أكيد أنك السيد سمير.

-نعم أنا سمير هل زوجتي خلود بخير.

-بخير..بخير ستكون بخير، أكيد أنك تعني لها الكثير، انها تهذي باسمك وتقول كلاما بلغة لم يسبق لي سماعها من ذي قبل.

-انه ألم المخاض أليس كذلك؟

-هذا ما قلت في نفسي، لكن ….

-لكن ماذا؟ يا دكتورة.

-لاشىء ليس هناك ما يدعو للقلق، سنكمل إجراءات التوليد وسأعود لأزف لك خبر الولادة بنجاح.

-شكرا لك دكتورة.

-لا شكر على فرض وواجب.

 

بابتسامة عريضة فارقت الطبيبة سمير وهي تحمل في جعبتها أكثر من سؤال حول من تكون زوجته التي ترقد بداخل غرفة العمليات رغما عنها، تلك الزوجة التي جعلتها تفند وطاقمها النسائي المساعد كل العلوم الطبية التي درسوها وتضرب في الصفر كل خبراتهم الطويلة في مجال التوليد، بعد بإنجاز فحص بالصدى للجنين، الذي وضح لهم أن المولود القادم سيكون طفرة في عالم الولادة ومولودا غير طبيعي.

 

على مدى سبع ساعات في قاعة انتظار معزولة، بدأت هذه المدة الطويلة وغير المعتادة في ظن سمير تدق باب الشك لديه، وشرعت في فتح أبواب كواليس منحته لذة بطعم الافاقة، فتوجه بخطوات مسرعة وثقيلة في الزمن نسج فيها كوابيس كل العالم الى أن استوقفته صورة خلود وهي تخرج من غرفة الولادة بكسوة طويلة بيضاء غطت كل مساحة الأرض لم تكن ترتديها قبل دخولها الغرفة، تقدمت بخطوة متثاقلة فرد بدوره بخطوة مماثلة من حيث الزمن والمسافة، شعرها الطويل يتطاير نحو الأفق البعيد رغم انعدام أي نقطة هواء بالمكان، نظراتها الشاخصة تحرس شفتيه وتكتم أنفاسه المتصاعدة، تحمل بين يديها قطعة من قماش أحمر اللون يتصاعد منه صوت بكاء وضحك ودخان حجب الرؤية بشكل مؤقت عن سمير بل حاول ذلك وهو يرمق أثرا من دم يسيل حتى الأبد من بطن الطبيبة المولدة وطاقمها الذين كانوا طريحي الأرض كباعة ورد بساحة حرب ضارية وضروس، تقدمت خطوة أخرى نحوه قابلها بخطوة تراجع الى الوراء، وأكاذيب فاضحة تنبعت من وجهها الذي بدأ يسقط عنه قناع الجمال والطيبة، فك كل رموز شفرتها السرية ذات الصدى الرنان في نفسه التي ذاقت المر وتمنت أن تسرقها المقابر أو تخسف بها الأرض خسفا، دقات قلبه المتسارعة والتي توشك على التوقف ترتل آيات الحب المزيف، الخيانة، الغدر ، المكر والقتل بعد أن تجلت له كل نواياها الخبيثة تحت الضوء، تزيد من خطواتها نحوه سبقت بها كل الكلمات التي يفكر في نطقها وقالت:

-ربما ندفن أحيانا الصراحة خوفا من الفراق.

-من تكونين؟ بالله عليك.

-أنثى أحبتك حتى الجنون.

-بالله عليك، من أنت؟

-زوجة عشقتك كما لم يعشقك أحد من قبل.

– ليخسأ الزواج ان كان قيدا قاتلا ولم يكن مطبوعا بالحب، بالصراحة، بالصدق. من تكونين؟ من تكونين؟ من تكونين؟

-حقا أجمل ما في الحب الصراحة، مهما كانت مؤلمة، لأنها اللؤلؤ الذي يزين الحب.

-من تكونين بالله عليك؟ من تكونين سئمت من ألاعيب التهرب التي تبدعين فيها.

من وراء جدران الممر المؤدي لغرفة الولادة، حيث يجلس سمير جاثيا على ركبتيه في آخر زواياه، صدح صوت غريب تصدعت به تلك الجدران وكأنها مصنوعة من البلاستيك وتحول لونها من اللون الأبيض الى لون رمادي ليلي موحش، صوت جعل فرائص خلود ترتعد أكثر من فرائصه، كل الجدران المتشققة كتب عليها في لحظة رعب بالدماء ” فليركع الكل في حضرتي”.

 

خلود تولول وكأن مدفعا مشحون بالقذائف موجه صوبها، وظلت متسمرة في مكانها، تستجمع همتها وتتبادل النظرات مع سمير الذي لم يعد بإمكانه الوقوف على قدميه من هول ما عاش من واقع مرير، ازداد مرارة عندما نطق صاحب الصوت وقال بلغة التهديد والترهيب:

 

“أنا سوميا الأعظم كبير ملوك الجان والشياطين، وما من مخلوق في الكون يستطيع مخالفة أوامري”.

-خلود تنطق: السمع والطاعة، ولا طاعة في الكون الا طاعتك.

-سوميا: فلتخسئي.

-سمير بلسان قتله الرعب: من تكون خلود؟ ومن يكون سوميا هذا يا الله.

-سوميا: ما من إله سواي.

-خلود: سمير انا أنثى…. أنا جنية…عشقتك حتى انتهى الألم، حتى انتهى وجع العشق، خرقت نظام الجن والشياطين في تجسيد الشر والاغواء والنزغ وتزيين الباطل، بسبب الحب، أنا من قتلت فاطمة بعد أن كنت أمارس وظائفي الطبيعية في كنف كاهن عجوز آمن بنا كمخلوقات خلاص وآمنت به سعيدة التي طرقت أبواب الشر تلبية لشهوة زائفة، أنا من قتلت والدتك وأوهمت الأرواح الضعيفة أن سعيدة الفاعلة، أنا من خنقت سعيدة وسلبت روحها أمام ناظريك لأنها أحبتك وشاركتك الفراش غدرا، وأنت الآن تعيش بلا قرين هو الآخر قتلته بشواذ من نار، وانا من قتلت الطبيبة وطاقمها بعد أن شككن في جنسي، وهمسن لبعضهن البعض أنك فاتن وجذاب…لم أقم بكل ما قمت به مجانا، بل قمت بكل ذلك لأستفرد بحبك، لغيرتي عليك بل لهيامي الذي لن تصفه كل الأوصاف.

 

 بعد سماعه لاعترافات خلود ومعرفته لكل الحقائق، سمير يتصبب عرقا يكفي لغرق طفل صغير، ويحاول استيعاب الواقع، يبتلع ريقه الذي جف بين لسانه وكلماته الخرساء وبشجاعة فوق قدرة تحمله الصدمة رد:

-اللعينة.

خلود: ان بداخلي فراغ لا يملأه أحد غيرك.

سمير: كنت وستبقين ما حييت حزني ويأسي البارد والعاجز والذي لن يختفي وراء سلوكك الذي يتظاهر باللطف والتودد الآن.

-خلود: سمير شفاعة الحب ستملأ قلبك بالسعادة.

-سمير: بئسا لك، كفاك تمثيلا، أعرف أنه باستطاعتك أن تكوني ملاكا وتجعلي من الظلمات نورا…ليس أمامي…لست أحمقا.

سوميا يتدخل وبهدوء الغاضب بطبيعته المقلقة، وبغضب الهادئ بطبيعته المريبة يقول: 

– ان ذريتي في سعيها لتحقيق مآربها قد تلجأ لترتيل القرءان.

-خلود: أنا لم ألجأ يا سمير الا للظفر بقلبك وقد بادلتني إحساس الحب ورميت بسهامه على قلبي.

-سوميا:  ههه ما ان يغادر أي سهم يد الانسان حتى يصبح ملكا لي…هههه…

-سمير: ليس هناك أكثر دناءة من الجرائم التي اقترفتيها وأسقطتني في دوامات ألمها وحزنها.

خلود: أي سقوط، هو ليس نهاية، فسقوط المطر أجمل بداية.

سوميا: أصبحت تتكلمين لغة البشر، فسحقا لهم ولك.

سمير: تمت صوت لا يستخدم الكلمات التي لا تستحقين سماعها، سينتقم منك يوما أكيد، اكيد ذلك، كنت أعتبرك انسانة تستحق قلبي.

سوميا: تخيب الظنون، حتى الرب اعتبرني كائنا يستحق الجنة، انه طبع ذريتي فلا تقلق.

-سمير:آه على لحظات فاتت سلمت فيها روحي قربانا لجنية….سلمتها للشيطان.

-خلود: هكذا هي الحياة لا البدايات التي نخطط لها ولا حتى النهايات التي نتوقعها.

-سوميا: البداية هي عندما فضل الرب آدم، البداية اللعينة والنهاية هي عندما سيكون بنو آدم حجارة لجهنم هههه.

 

سمير يحاول الوقوف والاقتراب من سوميا وخلود ولكن وكأن جبلا موضوعا على كتفيه أقعده بقوة ضغط لم يسبق أن أحسها يوما في حياته يقول:

 

-سمير: بئسا لخلق لم يعرف أن سبب خلقه هو العبادة والتضرع.

-خلود: خلقت…خلقت لأحبك فقط وها أنت تحاول قتل هذا الحب.

-سمير: ايتها اللعينة.

-خلود: سمير باسم الحب وباسم سوميا أطلب منك المغفرة.

-سوميا: أيتها الخسيئة باسم سوميا أولا، متى كنت ثانيا، أنا الأول في الصفات والذكر.

 

خلود تنتفض في وجه سوميا بلا وجل وتقترب منه حتى أصبحت تحس بأنفاس غضبه وهي تكسر بذلك بروتوكول التقديس والتعظيم وتصرخ بشدة:

 

“أعرف أنك جئت لقتلي،لاني خرقت نظامك اللعين، لأني خرجت عن طوعك وطاعتك، لأني نقضت عهدا نجسا ،لأني أحببت انسيا، نعم أحببت بنو آدم، لقد وجدتهم على حق في حبهم في مشاعرهم في تعاملهم في علاقاتهم، وجدتهم على حق في كل شيء، رغم النفاق السائد الذي سببه أنت، أنا، وذريتك، نحن من ندفع البشر للكذب، للسرقة، للشهوة، للقتل، لاقتراف كل الكبائر، لماذا لا نتركهم يعيشون في سلام، لماذا كل هذا العداء، أنت رفضت السجود لآدم …انه حقك، أنا أريد السجود لذرية آدم بأكملها، سئمت من الهمز واللمز، كرهت الخيلاء، التكبر، العصيان، الخداع، الكراهية، الباطل، الغواية والخبث، كرهتك يا سوميا منذ زار هذا الحب النبيل قلبي الذي لم ولن ينتمي لذريتك يوما”.

 

سمير يتقدم نحوهما حبوا بعد أن اتخذت خلود الصراخ سلاحا للدفاع عن نفسها والسكوت الممزوج بعدم الرضى سلاحا لفشلها في ايصال رسالة الحقيقة لسوميا، يحبو فيحبو الزمن معه بعقاربه البطيئة التي تحسب الثواني وكأنها أعوام، يقترب ويقترب وفي نفسه غاية واحدة، وعزم واحد بأن يرتمي ويخنق روح خلود التي أزهقت روح السعادة لديه، يتوقف عن الحبو وتتوقف معه ضغينة نفسه المتعطشة للانتقام منها، يرفع بصره وينظر اليهما بنظرات المغشي عليه من الموت، وسمعه يلتقط صوت خلود وهي تقول بأنين الوداع:

 

” وداعا سمير ما عدت أريد شيئا من هذه الدنيا، فأنا أقر أني ذقت أقدس حب فيها، أعترف أني أخدت كل نصيبي منها حين عشقتك، حين عشقتك، حين عششش…. ق…ت..ك”.

 

 بعد أن أصبحت روح خلود رمادا بين يدي سوميا الآثمتين، والذي أعفى سمير من خطيئة كانت ستظل تلاحقه كما خطيئة آدم، وبتقاسيم وجه مرتاح لم يستطع اخفائها رغم قسوة الجزع التي احتسى كؤوسه وشرب منه حتى الثمالة، اعترض سقوط المولودة أرضا، تلك التي تمناها أن تقضي على وحشة ووحدة أبنائه وود تسميتها “رقية ” تيمنا باسم والدته، أمسكها بيدين ترتعدان فضمها اليه وعانقها عناقا بالعيون والكلمات، وسوميا يرقبه بنظرات المكيدة التي نسجها له حين عزم قتل خلود نيابة عنه ليشفي غليله ويكسبه في صفه حتى يوقعه في المحظور فوسوس اليه قائلا:

 

” يا سمير هل أدلك على شجرة السعادة، وفرح لا يبلى”

 

نفس سمير كانت دائما تتوق للسعادة، كانت دائما ترحب بأي فرح يطرق بابها، بل كانت نفسا بريئة تنساق وراء الألسنة المحترفة للكلام، نفس طاهرة صدقت نجاسة سوميا في الاغواء وفي القول المنمق حين وسوس له مجددا بقتل المولودة حتى يتمكن من الهناء بحياة مليئة بالسعادة والفرح، همس مرات ومرات ب:

  

“قاسمتك أني لك من الناصحين”  

 

غوى سمير في لحظة ضعف واستسلام، وفي لحظة شوق وتطلع لقسم ماكر ونصيحة باطلة، وضع المولودة أرضا ولف أنامله حول عنقها بقوة وكأنها العدو جثم أنفاسها وأرداها جثة هامدة صعدت روحها الى السماء مع تصاعد ضحكات انتصار سوميا على سمير، لتظل وصمة “خطيئة آدم ومعصية ابليس” مستمرة الى نهاية الكون.

 

                                                  انتهت بعون من الله

 

ااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا

  

 بعيدا عن أي انسياق غير مدروس وراء أي علاقة كيفما كانت طبيعتها، لابد من احتكام العقل قبل القلب والمنطق قبل العاطفة، لا بد من اختيار أسس صحيحة لا تسوق العلاقة الى حافة الاندثار، وتجعل منها ذكرى سوداء قد تحول دون إعطاء هذه العلاقة قيمتها المطلقة والايجابية في نظر الجميع، وخوفا من أي تعب في الاعتماد على العقل والمنطق ابتعد عن نسج أي علاقة مع أي كان ان كنت تريد العيش في أمان وسلام.