*حين ينهض ابنُ امزاب بالفكر… ويصغي الوطن لصوت الحكمة: الدكتور محمد حركات نموذج العالم الذي يمشي والضوء خلفه* *بقلم حبيل رشيد*

جريدة أرض بلادي -هيئة التحرير-

يقول الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون: «المعرفة قوّة، غير أنّها لا تُثمر إلّا إذا اقترنت بالحكمة، وتحوّلت من فكرة إلى فعل». ولعلّ هذا القول العميق يشكّل مدخلاً مناسباً للحديث عن رجلٍ جمع بين المعرفة والحكمة، بين النظرية والتطبيق، بين التحليل الرصين والنقد الشجاع… إنّه ابن منطقة أمزاب، الدكتور محمد حركات، أحد أبرز الأصوات الأكاديمية والفكرية في مجال الاقتصاد السياسي والحكامة على الصعيدين الوطني والدولي.

 

إنّ الحديث عن الدكتور محمد حركات ليس حديثاً عن أستاذ جامعي فحسب، بل عن مدرسة فكرية قائمة بذاتها، تبلورت معالمها عبر مسار طويل من التكوين، والبحث، والتأطير، والخبرة الميدانية والإشعاع الدولي. خرج الرجل من أمزاب حاملاً معه ذهنية القرية التي تُعلّم أبناءها الصبر والمثابرة، ووعياً مبكّراً بأنّ العلم ليس امتيازاً فردياً، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الوطن والإنسان والمستقبل. لقد أدرك منذ خطواته الأولى أنّ المعرفة ليست جسراً نحو الترقّي الشخصي فقط، بل نحو خدمة المجال العمومي وإصلاح أعطابه المتأصلة.

 

ومنذ أن التحق بــجامعة محمد الخامس بالرباط، واحدة من أهم قلاع العلم والفكر في المغرب، تميّز الدكتور حركات بكونه أستاذاً لا يكتفي بإلقاء الدروس، بل يفتح للطلبة أبواباً جديدة لرؤية الواقع، ويمدّهم بأدوات منهجية دقيقة لقراءة الظواهر الاقتصادية والسياسية، ويغرس فيهم ذلك الحسّ النقدي الذي يجعل الباحث ناقداً قبل أن يكون ناسخاً. وقد اعتاد طلابه أن يقولوا إنّ دخول محاضرته يشبه دخول مختبر فكري يشتغل على صناعة العقول لا على ملء الأوراق، وعلى تشكيل الباحث لا على تنميق العبارات. وكان هذا النهج، في عمقه، ثمرة وعيه بأنّ الجامعة ليست فضاءً للتلقين، بل ورشة دائمة لطرح الأسئلة الصعبة، وهدم المسلّمات الرخوة، وبناء الأطر المفاهيمية التي تمنح الفكر قوة السيرورة.

 

لكنّ تميّز الدكتور حركات لم يقف عند حدود الجامعة، فالرجل حَمَلَ علمه إلى فضاءات أوسع، حيث اشتغل خبيراً دولياً مع الأمم المتحدة وعدد من الهيئات والمؤسسات الدولية المتخصصة في تقوية القدرات الاستراتيجية والحكامة المؤسسية. وبفضل هذه التجربة، راكم رؤية شمولية نادرة تمزج بين التجربة الأكاديمية والبُعد العملي، مما مكّنه من قراءة المنظومات الإدارية والاقتصادية من الداخل، وفهم آليات اشتغالها، وتشريح نقط قوّتها وضعفها. لقد تحوّل إلى صوت مسموع في الملفات المتعلقة بالإدارة العمومية، والمحاكم الإدارية، والنزاهة، وإصلاح الدولة، وتجويد السياسات العمومية. وكان كلّ تقرير يشارك في صياغته، وكلّ ورشة يؤطّرها، وكلّ جلسة استشارية يحضرها، بمثابة لبنة تُضاف إلى بناء وطني ودولي يحتاج إلى العقول الرصينة أكثر من حاجته إلى الشعارات.

 

ولا يقلّ عطاء الدكتور حركات في مجال التأليف شأناً عن حضوره الأكاديمي والمهني؛ فقد أغنى المكتبة المغربية والعربية بمجموعة من المؤلفات التي توزعت بين الديبلوماسية الاقتصادية الجديدة، والحكامة الاستراتيجية والحلم العربي المضاع، وما لم يُقَل بشأن حكامة الأحياء الجامعية والحياة الطلابية، وغيرها من الأعمال التي تجمع بين قوة الفكر ودقّة التحليل. وتتميّز كتاباته بكونها لا تُجامِل الوقائع، ولا تنحني أمام الخطابات الرسمية، بل تطرح الأسئلة العميقة التي تهرب منها المؤسسات، وتسلّط الضوء على الأعطاب البنيوية التي لا يمكن إصلاحها إلّا عبر رؤية صريحة وجريئة وشفافة. وقد جعلته هذه الجرأة الفكرية من الأسماء القليلة التي لا تكتفي بملاحقة الأحداث، بل تسعى إلى فهم جذورها التاريخية، وأصولها الاقتصادية، وتشابكاتها السياسية، مما يجعل قراءته لأيّ حدث بمثابة تأمل عميق في الخلفيات التي تشكّل جوهر الأزمات وليس مظاهرها فقط.

 

وما يميّز الدكتور محمد حركات، بوصفه ابن أمزاب، هو ذلك التوازن النادر بين الانتماء المحلي والامتداد العالمي؛ فقد ظلّ مرتبطاً بجذوره الأولى، يستحضرها في لغته، وفي مواقفه، وفي رؤيته للإنسان، وفي تعريفه لوظيفة المثقف الذي لا ينفصل عن الأرض التي خرج منها. وفي الوقت نفسه، استوعب بمنطق العارف أنّ الفكر لا وطن له، وأنّ الأكاديمي الحقيقي هو من يستطيع أن يُسافر بفكرته من المحلي إلى الكوني دون أن يتخلّى عن روحه أو يُقايض مبادئه. ولهذا السبب، أصبح الدكتور حركات من النماذج النادرة التي تحظى باحترام التيارات الفكرية المختلفة، سواء بسبب عمق أطروحاته أو بسبب التزامه العلمي والأخلاقي أو بسبب صراحته التي لا تساوم.

 

كما يحتفظ له المتابعون بمكانة خاصة في المجال الإعلامي، حيث يُشارك باستمرار في ندوات وبرامج تحلل قضايا الاقتصاد، والحكامة، والسياسة العمومية. وقد اعتاد أن يُقدّم رؤيته بلغة واضحة لا تضلّ طريقها إلى المتلقي، لكنها في الوقت ذاته تحمل ثقل المعرفة وعمق التحليل. لغةٌ لا تلهث خلف الإثارة، بل تلاحق الحقيقة، ولا تركض نحو الظواهر، بل تنقب في الجذور. وكثيراً ما اعتُبر حضوره الإعلامي نموذجاً للخبير الذي يجيد مخاطبة الجمهور دون أن يتخلى عن مركزية المفهوم العلمي أو صرامة التحليل الأكاديمي.

 

وعلى الرغم من كلّ مسؤولياته ومهامه الدولية والوطنية، ظلّ الدكتور حركات وفيّاً للجامعة باعتبارها فضاءً للتكوين، وللبحث العلمي، ولإنتاج الوعي الجديد. لا يزال الرجل، إلى اليوم، يؤمن بأنّ إصلاح الدولة لا يبدأ من البرامج الحكومية فقط، بل من تكوين العقل الجامعي وترسيخ أخلاق البحث العلمي وإعادة الاعتبار للمعرفة في مجتمع تزداد فيه الحاجة إلى الخبراء الحقيقيين لا إلى الأصوات المرتفعة. ويؤمن أيضاً بأنّ الحكامة ليست مفهوماً نظرياً مجرّداً، بل هي روحٌ تنعكس في السلوك الإداري، وفي القرار العمومي، وفي منظومة القيم التي يقوم عليها كلّ جهاز من أجهزة الدولة.

 

إنّ سيرة الدكتور محمد حركات ليست سيرة رجلٍ عادي، بل هي سيرة نموذج يؤكّد أن المغرب — من أمزاب وغيرها — قادر على إنجاب عقول تُنافس في المحافل الدولية، وتساهم في صياغة مستقبل السياسات العمومية، وتقدّم إضافات نوعية للنقاشات الاقتصادية في الوطن العربي. نموذجٌ يثبت أنّ المعرفة حين تمتزج بالانتماء تصبح قوة أخلاقية، وحين تمتزج بالحكمة تصبح أداة للتغيير، وحين تمتزج بالشجاعة تتحول إلى نورٍ يمشي صاحبه والضوء خلفه.

 

وهكذا يبقى الدكتور محمد حركات واحداً من تلك الأسماء التي لا تعبر الزمن عابرة، بل تترك فيه أثراً، وتبني فيه معنى، وتبرهن أنّ العلم ما زال — رغم كلّ الفوضى — طريقاً ممكناً لنهضة الوطن. ابن أمزاب… الذي خرج من المكان الهادئ، ليُصبح أحد العقول التي يُصغي إليها الوطن حين يتكلّم عن الحكامة، وعن الاقتصاد، وعن مستقبل الدولة. وحقّ له أن يكون كذلك، فهو واحد من أولئك الذين يكتبون بفكرهم قبل قلمهم، ويتكلّمون بالمعرفة قبل اللغة، ويسيرون في طريقٍ يعرفون أن نهايته ليست مجداً شخصياً، بل خدمةُ وطنٍ يستحقّ أن يسمع لصوت العلم حين ينهض من عمق أمزاب… ويمشي بالنور إلى الأمام.