جريدة أرض بلادي
…حين ودّعته ذات صباح، لم أكن أعلم أنني أودّع الحياة كما عرفتها. كان يرتدي بزّته العسكرية، يبتسم لي، ويقول: “الوطن يستحق.” لم يكن يعلم أن الوطن سيغيّره، وسيغيّرنا، وسيصمت حين نحتاج أن يتكلم.
زوجي استُشهد في حرب الصحراء، تلك الحرب التي أخذت الكثير من أبنائنا، وتركت خلفها أرامل، وأيتام، وذاكرة مثقوبة. قيل لنا إنهم ماتوا من أجل الأرض، من أجل الكرامة، من أجل أن يبقى الوطن شامخًا. صدّقنا، وصبرنا، وانتظرنا أن يعترف الوطن بوجعنا، أن يحتضننا كما احتضن ترابه دماءهم، أوعلى الأقل كما احتضن خونته.
* لكن الوطن تغيّر.
صار أكثر صمتًا، أكثر جمودًا، أكثر انشغالًا بالملفات والأرقام. لم يعد يسأل عنّا، لم يعد يزورنا، لم يعد يسمعنا. في الإدارات، نحن مجرد أرقام في سجلات قديمة. في المجتمع، نحن نساء فقدن أزواجهن، وكأن الفقد كان خيارًا. في الإعلام، نحن صور تُعرض في المناسبات، ثم تُنسى.
* والصمت يتكلم.
يتكلم في نظرات أبنائي حين يسألون عن أبيهم، ولا يجدون جوابًا سوى صورة معلّقة على الجدار. يتكلم في كل باب طرقته لأطلب حقًا بسيطًا، فيقال لي: “راجعي الملف.” يتكلم حين أرى من لم يضحّوا، يتنعمون، ومن ضحّوا، يُهمّشون.
أنا لا أطلب صدقة، ولا فضلًا. أطلب فقط أن يُسمع صوتنا، أن يُحترم وجعنا، أن يُعاد الاعتبار لمن ماتوا من أجل أن يبقى هذا الوطن موحّدًا، حرًا، عزيزًا.
أكتب اليوم لا لأبكي، بل لأذكّر. إن الشهيد ليس مجرد اسم في لوحة، بل قصة لم تكتمل. أن الأرملة ليست مجرد حالة اجتماعية، بل ذاكرة حيّة. أن الوطن، إن لم يعرف كيف يحتضن من فقدوا أحبابهم من أجله، فقد نسي نفسه.
الصمت لا يجب أن يكون ردّ الوطن على من ضحّوا. الصمت يجب أن يُكسر، والذاكرة يجب أن تُحفظ، والكرامة يجب أن تُصان.
لأننا لا نطلب أكثر من الاعتراف، ولا أقل من الإنصاف.