جريدة أرض بلادي
استهلال
ليست الكتابة الموسوعية بالأمر الهيّن، فهي دربٌ وعرٌ لا يُجيده إلا من امتلك ناصية المعرفة وتسلّح بالصبر والمثابرة. إنها كتابة تتطلب إلمامًا واسعًا، وخبرة عميقة، وتقنيات صارمة، يتداخل فيها البحث العلمي بالتوثيق التاريخي، وينصهر فيها العقل بالقلب من أجل إنتاج معرفة رصينة جامعة.
تُعرَّف الموسوعية بأنها رؤية تهدف إلى جمع طيف واسع من المعارف في عملٍ واحدٍ متكامل، وتتّسم بالشمول، لا من حيث الكم فقط، بل من حيث الإحاطة والسبر العميق لكل موضوع يُطرح بين دفتيها.
وقد لخّص الدكتور محمد الجوادي هذا المفهوم بدقة حين قال:
> “تعارف الناس على أن يُصنَّف من برز في أكثر من تخصصين بأنه موسوعي”.
إذن، الموسوعي ليس كاتبًا عابرًا، بل صانع معرفة، يتجاوز ما يحلو له كتابته، ليؤسس عملًا مرجعيًا مكتمل البناء، منهجيّ التكوين.
1. مبادئ وضوابط الكتابة الموسوعية
للولوج إلى عالم الكتابة الموسوعية، لا بد من الالتزام بجملة من المبادئ، أبرزها:
وضوح اللغة وسلاسة الأسلوب.
تجنّب الأخطاء الإملائية والركاكة في التعبير.
اعتماد الدقة والموضوعية.
الاستناد إلى حقائق علمية وتاريخية ومعرفية موثقة.
خلق توازن وتكامل بين وحدات الموضوع.
أما الضوابط، فتتمثل في:
الاعتماد على مصادر ومراجع موثوقة.
الابتعاد عن المواضيع المثيرة للجدل أو التي تخاطب العاطفة بدل العقل.
التحقق الدقيق من كل معلومة تُنشر.
2. خصائص الكتابة الموسوعية
الكتابة الموسوعية لا تستقيم إلا بتحقيق مجموعة من الخصائص المنهجية، من بينها:
ترتيب المواضيع والعناوين أبجديًا، لتيسير الرجوع إليها.
الاختصار دون الإخلال بالمضمون، والابتعاد عن الإطناب والمبالغة.
التحليل العميق بعيدًا عن الأحكام الذاتية أو المزاجية.
الدقة والحياد في الطرح والتناول.
3. إشكاليات تواجه الكتابة الموسوعية
في الوطن العربي، والمغرب خاصة، تواجه الكتابة الموسوعية عراقيل عدة، منها:
غياب ثقافة العمل الجماعي في الإنتاج المعرفي.
تهميش الباحثين وعدم الاعتراف بمجهوداتهم.
صعوبة الوصول إلى المؤسسات الثقافية والبحثية، وإغلاق أبواب التمويل أمام مشاريعهم.
ندرة المكتبات ومراكز التوثيق، مما يُعيق الباحث في الوصول إلى المراجع اللازمة.
تجاهل رسمي لأهمية التوثيق الموسوعي، وكأن المعرفة ترف لا ضرورة.
4. فاطمة بوهراكة والكتابة الموسوعية: مسيرة من التحدي والإبداع
وسط هذا الواقع القاسي، تتألّق فاطمة بوهراكة، الباحثة والشاعرة المغربية، كمثال حي للكاتب العصامي الذي يشق طريقه بإصرارٍ رغم كل الصعوبات.
لا تقتصر إبداعاتها على الشعر فقط، بل تتعداه إلى مشاريع موسوعية ضخمة أرّخت من خلالها للذاكرة الشعرية العربية. ومن بين مؤلفاتها الأدبية:
“اغتراب الأقاحي” (2001)، مترجم إلى الفرنسية.
“بوح المرايا” (2009)، بثلاث لغات: العربية، الفرنسية، الإسبانية.
“نبض” (2012)، صدر بسبع لغات، منها العربية، العبرية، الفرنسية، الكردية…
“جنون الصمت” (2015)، صدر في الرباط والقاهرة.
أما على مستوى المشاريع الموسوعية، فقد أنجزت:
“الموسوعة الكبرى للشعراء العرب”، التي انطلقت سنة 2016، وضمت 2000 شاعر وشاعرة، وصدر منها خمسة أجزاء.
“مائة شاعرة من الوطن العربي: قصائد تنثر الحب والسلام (1950–2000)” بأربع لغات.
“77 شاعرا وشاعرة من المحيط إلى الخليج” (2007–2017).
“شعراء سياسيون من المغرب” (1944–2014).
“موسوعة الشعر السوداني الفصيح” (1919–2019).
“خمسون عامًا من الشعر العماني الفصيح في ظل السلطان قابوس” (1970–2020).
“موسوعة الشعر النسائي العربي المعاصر” (1950–2020)، وتضم 1011 شاعرة.
“الرائدات: في طباعة أول ديوان شعري نسائي عربي فصيح”.
“خمسون شاعرًا وشاعرة من الإمارات” (1971–2021).
وبعد كل هذا العطاء، من حقها أن تتساءل بصوت عالٍ أمام وزير الثقافة:
> “لماذا رفضت الوزارة طبع منجزها التوثيقي (موسوعة الشعر المغربي الفصيح 1953 – 2023)؟
وهو العمل الذي يؤرخ لحياة شعرية متجددة، من ثورة الملك والشعب إلى عهد الملك محمد السادس، نصره الله.”
خاتمة
إن فاطمة بوهراكة ليست مجرد كاتبة أو شاعرة، بل هي رائدة من روّاد الكتابة الموسوعية، حملت همّ الشعر العربي وجعلت من قلمها جسراً بين الأجيال، ومن مشاريعها قبلة لكل من أراد أن يعرف الشعر العربي في شموليته وثرائه.
هي صوت المرأة الباحثة، التي تُسهم في صياغة الذاكرة الثقافية العربية بكل ثقة واقتدار.