أديبتنا الصاعدة حكيمة لكمير ..مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي- هيئة التحرير-

وبعد، لقد اسعدتني بحق رسالتك الجميلة، وادخلت كثيرا من البهجة إلى قلبي، لأسباب عدة، ليس المجال متاحا للخوض فيها جميعها، ويبقى أهمها اسلوبك الجميل في الكتابة، الذي يدل على اهتمامك الكبير بالأدب بشتى أجناسه، في عصر بدأ الاهتمام فيه بالأدب وفنونه يتقلص، بل يضمحل، هذا بالإضافة إلى حرصك على أن لا تهتمي بالقراءة فحسب، وهذا الأمر واضح من رسالتك الجميلة، ما ظهر منها وما بطن، أقصد ما نستشفه من بين السطور، بل سعيت علاوة على ذلك إلى أن تتميز كتابتك بالرقي والعمق والشمولية، تجمع ما بين فن المقالة وفن الرسائل وانشغالات النقد الأدبي. كل ذلك تتخلله تأملات فكرية وفلسفية عميقة.

واظن أن الفضل في كل ذلك يعود إلى أسرتك وأساتذتك، الذين ساهموا بشكل كبير في صقل تجربتك في الحياة وفي الكتابة، فلامست بعض النضج، الذي لا شك سيتعضد اكثر مع الوقت والإصرار منك على التطور، وسيعطي أكله بعد حين هنيئا مريئا. لكل ذلك اغتنم هذه الفرصة لأقدم لهم جميعا تحية تقدير واحترام على مجهوداتهم المشكورة.

أما بخصوص أسئلتك العميقة، التي نتجت عن قراءتك للروايتين “رجال وكلاب” و”عائشة القديسة”، فيسعدني أن أشركك في تصوري الشخصي، الذي يتأسس على أن كل الإجوبة هي مجرد وجهات نظر، تلزم أصحابها بالدرجة الاولى، لذا لا نعول عليها كثيرا، ومن الأفضل أن لا نقتنع بأي إجابة، حتى تبقى لوعة السؤال مشتعلة، نسعى لإطفائها بمزيد من القراءة والتأمل، والبحث العميق في شتى مجالات المعرفة.

الكتابة الأدبية -اديبتنا الصاعدة- تتداخل فيها عدة عوامل، منها الجانب الواعي، الذي يجب ان يكون حاضرا بقوة خلال الكتابة، لأنها في رايي المتواضع فعل إرادي، نسعى من خلاله إلى خلق أثر فني يستمر تاثيره في الزمان، متضنا لفلسفتنا الخاصة في الحياة التي حتما تنتصر للقيم الإنسانية النبيلة، نصوغها في معادل موضوعي يضمن للنصوص تعدد الفهم والتأويل، ويبعد عنها أحادية المعنى، التي هي بلا شك قاتلة للنص وحادة من توهجه، وعوامل غير واعية تتسلل إلى الكتابة بالرغم عنا، وقد لا ننتبه إليها إلا بعد حين، فاختيار أسماء الشخصيات مثلا والفضاءات والأزمنة وغيرها تتحكم فيها مؤثرات غير واعية كذلك، تعود في اغلبها إلى تراكمات نفسية لاشعورية، حدثت خلال مراحل نمو الإنسان وتطوره. لهذا من الصعب تبريرها من قبل الكاتب، وإلا تعلق بالوهم، وسعى في ذلك سعيا غير ذي جدوى.

من جانب آخر يستمد الكاتب، يا حكيمة، مواضيعه وإلهامه من عدة مصادر، أهمها القراءة، فالأدباء عموما هم قراء نوعيون، لا يتوقفون عن القراءة، بل لا يهدأ لهم بال حتى يكتبوا انطباعاتهم حول ما يقرأونه من كتب، كما أن المعيش اليومي مصدر ثر للخبرة الحياتية التي تفيد الكاتب بشكل كبير في الكتابة، فالكاتب الذي يكتب عن امر لم يخبره بعمق، غالبا ما الا يتفوق فيه، كما أن الخيال مصدر مهم من مصادر الكتابة، فرأسمال للكاتب هو الخيال، وبدونه تأتي كتابته ضحلة وغير ذات قيمة.

أما بخصوص الروايتين اللتين قراتهما، فيمكن أن أقول رايي فيهما كقارئ، لأنني أومن بأن الكاتب حين ينتهي من كتابة نص ما، يصبح ذلك النص ملكا للقراء، وأي تدخل منه يعتبر توجيها لهم وفرضا لتصور محدد عليهم، بل يعد نوعا من الوصاية على القارئ والحد من حريته، لذا أحاول قدر المستطاع تجنب كل ذلك، لكنني حين اعود إليهما، اقصد الروايتين المذكورتين سلفا، كقارئ يمكن أن أسجل بعض الملاحظات، ومنها أن العنوان ليس بالضرورة من إنتاج الكاتب، فالناشر قد يكون له تدخل فيه، وقد بقترح عنوانا مغريا بالقراءة، غير العنوان الذي وضعه الكاتب، وهذا ما حدث بالنسبة لرواية “رجال وكلاب،” التي كان عنوانها الأصلي ” لعنات”، وربما ستفهمين بحكم قراءتك لها كم من لعنات طاردت الشخصيات في حلها وترحالها، وهي الرواية التي حاولت أن أوظف فيها بعض تقنيات التحليل النفسي، ومنها التداعي الحر، كما حاولت أن أفتح فيها حورا مباشرا ما بين السارد والقارئ، وفي ذلك نوع من الاعتراف بمساهمة القارئ في بناء النص الروائي، كما أنه قد يكون حيلة سردية لشد انتباه المتلقي، وقد تضمنت الرواية كثيرا من القضايا الاحتماعية، التي تؤثر في نفسيات الشخصيات، فلا يخفى على أحد ان المعضلات الاجتماعية والثقافية لها تاثير عميق في شخصية الإنسان، لذا كانت الاوضاع الاجتماعية للأسرة وتمثلاثها الثقاقية لنفسها وللمرض وللعلاج منه محددة في تكوين الشخصيات وتطورها، كما ان المعرفة كانت حاسمة في بناء تصور عقلاني للانسان وما يحيط من ظواهر، ولعل الرواية قد حاولت إبراز ذلك. ولن أنتهي من تقديم وجهة نظري حول الرواية دون ان أنوه بملاحظتك الذكية حول الميولات الوجودية للبطل علال داخل المتن الروائي.

أما بخصوص رواية عائشة القديسة، فحاولت من خلال أن ألامس ثيمة مهمة، تتعلق بالثقافة الشعبية في بعدها الخرافي، وكيف تؤثر على الذهنيات، وقد ابرزت الرواية الشيزوفرنيا التي تعاني منه الشخوص، من خلال التجاذبات التي تقع ضحية لها، ما بين الاعتقاد الراسخ في قيمة العلم والمعرفة والحلول العقلانية للمشاكل التي تواجهها، وما بين التسلط الخرافي على الأذهان، خاصة على مستوى البنية النفسية العميقة، مما يجعل المجتمع يحيا في ظل تناقضات ومفارقات، لم تسع الرواية لطرح حل لها، بقدر ما بادرت إلى الكشف عنها بشكل فني غير مباشر، من خلال خلق حكاية، توظف المخزون الثقاقي الراسخ في الأذهان، والمتعلق بالأعتقاد بوجود الجن وتأثيره في الإنسان بشكل مباشر او بشكل غير مباشر، بما يعني في أحد مستويات التأويل انها تمارس نوعا من التنوير من خلال الأدب.

طبعا لا تنتظري مني -طالبتنا النجيبة- ان أجيب بشكل مباشر على كل تساؤلاتك، لأنني ببساطة لا أملك أجوبة شافية لها، وكل ما أستطيعه هو ان اطرح معك مزيدا من الاسئلة من قبيل هل فعلا حسم مجتمعنا مع سيطرة الفكر الخرافي، وهل استطاع الادب أن يعكس هذا التشابك والتداخل في الذهنيات، وهل الكتابة حل لعدد من المعضلات، وهل يستطيع الادب فعلا تخليصنا من بعض المشاكل، كما نظر لذلك ارسطو فيما سماه بالكتارسيس، والذي يمكن تعريبه بالتطهير.

اسئلة كثيرة وغيرها اتمنى ان تكون محفزة لك على مزيد من البحث عبر القراءة الجادة والمتواصلة وعدم الاستسلام لإغراء الأجوبة الجاهزة، لانها ببساطة تقتل الشغف، وتربي فينا الكسل والاطمئنان، بل تجرنا جرا نحو الغرور، وأحيانا إلى وهم امتلاك الحقيقة المطلقة، فيما يتعين علينا أن لا ننسى أبدا الدرس الذي يعلنا إياه الأدب، وهو التواضع تجاه المعرفة والإيمان العميق بنسبية ما نؤمن به وما نعتقده.

دمت بالف خير ومحبة، متمنيا لك السعادة التي تستحقينها، والنجاح الدائم في الأدب وفي الحياة.

المعجب بأسلوبك وثقافتك مصطفى لغتيري