جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-
مصطفى لغتيري-
لا جدال في أن علاقة التدريس بالإبداع علاقة متينة، وأبدا لا ولن تنفصم عروتها الوتقى، فالمدرس الناجح هو بالتأكيد فنان مبدع، فبرغم انضباطه للمذكرات والبرامج المقررة، بيد أنه ما يفتأ يجترح طرقه الخاصة في التدريس، تلك التي تجعل منه أستاذا مميزا عن غيره من الأساتذة، فالأستاذ وهو يلقي درسه أمام تلاميذه يضارع ذلك الممثل الذي يجتهد أيما اجتهاد في شد انتباه جمهوره، إذ أنه يعلم أن أداءه وحده ولاشيء غيره هو القادر على إنجاح مهمته وتحقيق أهدافه،، فالجمهور لا يجامل ولا يرحم، فإما أن تقنعه ويستمر في متابعة أدائك، أو تفشل فشلا ذريعا في إقناعه فيشيح بوجهه عنك، ويتركك ملوما محسورا. كذلك الأستاذ الذي يلقي درسه أمام نشء، هم بالتأكيد شديدو الحركة، كثيرو التبرم، ضيقو النفس والنفس، فإما أن يقنعهم الأستاذ من خلال شد انتباههم، بما يقدمه من مضامين، وبطريقته في الإلقاء، التي كلما اغترفت من الأداء المسرحي استطاعت أن يحالفها النجاح. وإما أن يفشل في ذلك، فتصبح قاعة الدرس بالنسبة له جحيما لا يحتمل.
الأستاذ بهذا المعنى وبغيره مبدع، فهو بالإضافة إلى مهمته الأساسية المتمثلة في التدريس، فإنه كذلك منشط فنان، يشرف على إعداد الأنشطة الموازية من مسرح ورسم وغيرهما، وهو كذلك محلل نفسي يحتاج إلى التوغل عميقا في نفوس تلاميذه، حتى يميز بين ذكاءاتهم واستعداداتهم النفسية ومدى قدرتهم على التعلم، وهو كذلك مصلح اجتماعي، ينصت إلى تلاميذه، ويحاول أن يجد حلولا لمشاكلهم الاجتماعية التي لا تنتهي، ولو عبر الإنصات والتوجيه والمواساة.
هذه درجات في الإبداع يمكن أن أستمر في سردها، ولن أستطيع لها حصرا، لتأتي في ما بعد درجة أعتبرها لا تقل أهمية عن باقي الدرجات ولا تسمو عليها، وأقصد الكتابة الأدبية، فمن خلال مرافقتي لعدد من الأساتذة تعرفت عليهم عبر مساري المهني، الذي أعتبره طويلا نسبيا، أستطيع أن أزعم أن كل مدرس هو مبدع بالقوة، وقد تتاح له الظروف لأن يتحول إلى مبدع بالفعل، وقد لا يتاح له ذلك، فيبقى المبدع فيه كامنا متحفزا للظهور كلما نضجت الظروف وتهيأت الفرص، فالأساتذة شغوفون في عمومهم بالقراءة، أو على الأقل حين نقارنهم بالموظفين في القطاعات الأخرى، وصراحة لا أستطيع أن أتخيل أستاذا غير قارئ، فالمفترض أنه يغرس الأستاذ هذه القيمة في وجدان تلاميذه وعقولهم، فكيف يتحقق له ذلك إن لم يكن قارئا؟ فالتلميذ يعتبر بالسلوك وليس بالكلام. كما أن كثيرا من الأساتذة لا يخفون رغبتهم في ممارسة الكتابة بشتى أنواعها، لأن مجال اشتغالهم يتداخل بشكل أو بآخر مع مجال الكتابة، لهذا فأغلب الكتاب يزاولون مهنة التعليم، كما أن جل من يحبرون مقالاتهم في الصحافة الوطنية والعربية هم بالتأكيد أساتذة.
الأستاذ مبدع حتى وإن لم يمارس الكتابة بشكل فعلي، إنه يبدع في الحياة، في التدريس وفي الأنشطة الموزاية، وفي مواكبة تلاميذه في شتى المجالات، ويكفيه فخرا أن كل كاتب مهما علا شأنه حين يسأل عن بداياته في الكتابة، يشير بفخر إلى أن أستاذته أو أستاذه هو من شجعه على الكتابة بعد الاطلاع على خربشاته الأولى.
فتحية تقدير وإكبار ومحبة إلى جميع الأساتذة، وكل المجد للأساتذة الذين تخرج على أيديهم الطبيب والمحامي والمهندس والربان وهلم وظائف.
فلنقف إجلالا لهذا الجندي المتفاني، الذي يناضل بلاهوادة في معركة، قوامها غرس القيم النبيلة ومحاربة الجهل والقبح والظلام أينما كان مصدرها.
