جريدة أرض بلادي – إبراهيم مجد
اختلطت عليه الأوقات ، واستعصى عليه التأقلم مع الزمن الجديد، بإمكانه وبسهولة تكييف عاداته وأشغاله وأعماله مع الزمن الجديد، لكن البقرتين والشياه الثلاث يرفضن الانصياع لزمن الحجر، ولا تتفتح شهيتهن للمرعى إلا عندما يتلطف الجو بعد السادسة مساء.
فكان يتعب في إجبار القطيع على العودة باكرا، وعلى غير العادة أصبح لديه بعض الوقت لمجالسة ابنته ذات الخمس سنوات، بعدما كان في السابق لا يطأ أرض بيته إلا بعد صلاة العشاء ويتسلل إلى فراشه حريصا على عدم إيقاظ ابنته كي لا يقطع عليها أحلامها الوردية، ويخلخل نظام نومها لأنها عندما تستيقظ من النوم تأبى إلا حديثه ومذاعبة لحيته ونزع طاقيته وخربشة أعضاء وجهه وكلما حاول منعها ولو بلطف تطلق عنان حنجرتها للبكاء.
جلس مع ابنته على غير عادته تحت شجرة الزيتون وكانت منهمكة ترسم على تراب الأرض أشكالا مبعثرة بواسطة قطعة قصب، وظل الأب في انتظارها لكنها على غير العادة لم تعره انتباهاً فناداها باسمها فلم تلتفت إليه وأعاد نداءها فزادت من لا مبالاتها، تعجب من سلوكها فقام من مجلسه ووضع يده على كتفيها وانحنى إليها وقال: ماذا ترسمين أيتها الاميرة الصغيرة ؟
أجابته بعفوية: هذه غرفتي وفيها سريري الخشبي وهذه نافذة غرفتي وعلى الحائط صورة ميكي ماوس وهذه مكتبتي مملوءة بالكتب وعلى أرضية الغرفة “مونيكتي” الكبيرة التي لا تريد أن تشتريها لي وهذه كرة كبيرة طلبت شراءها منك عدة مرات، وهذا كلبي الرّومي وهو ليس مثل كلابنا في البادية، وهذه غرفتك أنت وأمي، رسمتها كرماً مني لكما، وخارج بيتنا توجد حديقة وصالة ألعاب رياضية نتمرن فيها جميعا، ولكنك قاطعتني ولم تتركني أكمل رسم المسبح الذي سأتعلم فيه السباحة.
كان الأب يتعجب مما تقول ابنته واجما تائها عندما نادته زوجته: “تعالاو تشربوا آتاي”
جلس الثلاثة على صينية الشاي في وجبة العشاء، خبز وشاي وزيت زيتون.
وعندما أكملوا وجبتهم صرخت الطفلة الصغيرة بصوت عالٍ : أبي أبي، ها هو بيتنا، ها هو بيتنا !!!.
ذهل الأب وظن أن في الأمر سوءا وخاف على ابنته، وبينا هو ينظر إليها في ذهول توجهت إلى جهاز التلفاز ووضعت أصبعها على زجاج الشاشة، وإذا بالأب يتابع بإمعان وروية ولأول مرة منذ بداية الحجر الصحي فقرة شبه إشهارية تقدمها التلفزة للمواكبة النفسية للأطفال في زمن الحجر الصحي.
أطفأ الأب التلفاز وهرع خارجا يلوح بيديه للسماء، فتبعته زوجته ممسكة ببقايا كسرة خبز، وبقيت الصغيرة تتابع فقرة المواكبة النفسية في الظلمة بشغف، لقد انطفأ التلفاز ولم يخمد فيض التخيلات بمخيلتها الرحبة.
وصلة للمواكبة النفسية للأطفال في زمن الحظر الصحي، واكبت الطفلة في اتجاه انفصام نفسي، وأَكَبّتْ وجه الأب في التراب وكبتت كل الاماني لدى الأم.