جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-
مصطفى لغتيري-
منذ أن ابتليت بحرفة الأدب، وهذا السؤال يطرح علي بشكل يكاد يكون متواصلا، وقد يتخذ صيغا مختلفة، تتنوع في أسلوبها، حسب طبيعة صاحب السؤال، لكن معناه يكون واحدا وموحدا، وغالبا ما يكون مصدر هذا السؤال أناسا ينظرون إلى الأدب من مسافة بعيدة، ويبنون عنه تصورا ورديا، له ما يبرره في فهمهم الخاص للأدب، مفاده أن الأديب شخص يعيش في عالم طوباوي مختلف عن عالمهم، وأن حياته تشتبك مع عوالم أخرى قريبة منها، تتمتع بكثير من الرفاهية واليسر، وهي في حقيقة الأمر عوالم متخيلة لا تمت للواقع بصلة، متأثرة بما هو متداول في مجتمعات أخرى، تقدر الثقافة حق قدرها، عكس مجتمعاتنا، التي لم تحسم بعد في أهمية الثقافة وضمنها الكتابة ودورها المهم في تشكيل الوعي الفردي والجماعي، أو أنها تحصرها في الجوانب الترفيهية التي تحقق المتعة المباشرة، نظير ما هو منتشر من فضائح في الآونة الأخيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وإن كان أفراد هذا المجتمع ينتقدونها نهارا، لكنهم يشجعونها ليلا، حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت، فالستر ضروري، ومن خصوصيات مجتمع فصامي الطبع، يعجبه أن يعيش في ظل النفاق الاجتماعي بشتى أوجهه، إذ يمكن للمرء ان يمارس أسوأ الرذائل، شريطة أن يستتر عن أعين الفضول.
ولا أخفي أنه حين يطرح علي هذا السؤال، أجد نفسي محاصرا في الزاوية الضيقة، إذ يبدو لي أنه يحمل بين طياته اتهاما مبطنا، مفاده أن حياة الكاتب سهلة وممتعة، وليس من حقه بالتالي الشكوى أو التباكي عن وضعه الهش والمرتبك، سواء في حاضره أو مستقبله.
وفي إجابتي عن السؤال أعلاه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، لا أميل طبعا إلى التهويل، وتصوير الكتابة كنوع من الأعمال الشاقة، ببساطة، لأنني أومن بأنها حتى وأن كانت شاقة حقيقة لا مجازا، فإنها تستبطن كثيرا من المتعة، التي تجعل من هذا العمل الشاق الذي يسمى الكتابة، عملا قابلا للتحمل من طرف من يمارسه، خاصة إن كان هذا الممارس عاشقا حقيقيا لعمله، بل يرقى به عاليا ليتخذ منه أسلوب حياة، فلكي ينتج الكاتب رواية يحتاج مثلا إلى لزوم مكانه جالسا لساعات طويلة، لا تقل عن مائة ساعة في أحسن الأحوال، يقضيها بدقائقها وثوانيها، ما بين الكتابة والتصحيح والتنقيح، وما إلى ذلك من قراءة وإعادة القراءة لنفس النص مرات متعددة، وقد يفهم هذا الأمر فهما جيدا، من يجد نفسه مضطرا، لسبب من الأسباب، لإعادة قراءة نفس الكتاب عدة مرات، وحتى وإن كان قد قضى وطره منه بعد قراءته مرة او مرتين، سواء كان هذا الشخص من الباحثين عن المتعة أو الفائدة في القراءة.
الكتابة عملية شاقة ومتعبة، لأنها تتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا وعضليا لا يستهان به، يؤدي بصاحبه إلى الاستنزاف، لذلك ولغيره تقدرها الأمم المتحضرة وتبوئ المؤلفين مكانة مرموقة في المجتمع، من خلال الاعتراف بوضعهم الاعتباري، باعتبارهم منتجين لرأسمال رمزي، لا تستغني عنه الأمم مهما بلغ شأنها في بناء حاضرها ومستقبلها، وحتى في الاحتفاء بماضيها كذلك، فالكتاب علاوة على أنهم مبدعون فهم ذاكرة حية كذلك، تختزن التراث الحضاري لشعوبها خاصة المكتوب منه، وكما هو معلوم فالأمم العظيمة تعرف بأدبائها ومفكريها، أما في وضعنا البائس، فيكفي أن يصبح ” المؤثرون” التافهون في الواجهة، ينسجون لنا رداء بهلوانيا، لا ريب أننا سنرتديه جميعا، مهما كانت قوة الممانعة التي نتمتع بها، فوضعهم الاعتباري تجاوز ويتجاوز كل الحدود، وحضورهم أضحى طاغيا بشكل لا يمكن تصوره، وإن غدا لناظره لقريب.