(أحلام الميسيسبي على ضفاف سبو ) للكاتب مصطفى لغتيري رواية العوالم المدهشة

جريدة أرض بلادي_

_محمد غزلي_

 

(*)”يكفي أن تكون مختلفا لتكون متهما” ( أحلام الميسيسبي ) ص130.

(**)الرواية بوابة نحو عوالم أخرى. م.غ.

إلى عشاق الروايات التاريخية، أو الفانتازيا التاريخية،

في محاولة لفتح بعض أقفال رواية (أحلام الميسيسبي على ضفاف سبو) للروائي المغربي مصطفى لغتيري.

تتحدث الرواية عن رحلة عسكرية حربية تاريخية يتداخل فيها الواقعي بالخيالي، الثقافي والفكري بالسياسي، بين ضفتين بحريتين، العرب والغرب.

تتوزع أحداثها بين ثلاثة أزمنة مختلفة وثلاث أصوات سردية، زمن الحرب العالمية الثانية وكتابة مذكرات الحرب والإنزال الأمريكي بالشواطئ المغربية (القنيطرة) ويمثل صوته السردي المجند الأمريكي كلارك. الزمن الثاني هو زمن المطلق من بداية التكوين وعصر ما قبل التاريخ إلى الأبد وصوته السردي طائر الحربوش الخرافي. الزمن الثالث زمن الحقبة المعاصرة لأحداث التفجيرات الأمريكية في بداية الألفية الثالثة يمثله كصوت سردي الساردة جانيت حفيدة المجند كلارك.

تنطلق الرواية من حدث يهز أمريكا بتفجير البرجين العملاقين. الصوت السردي الرئيسي الأول جانيت، الفتاة الجامعية الشقراء، تلتحق بالمتطوعين لتقديم الإغاثة والمساعدة للمنكوبين والمصابين جراء الحادث. وتقدَّم في النص كمثال للفتاة الأمريكية القوية، بل هي أمريكا في غرورها واعتدادها بذاتها وفردانيتها.

مقولة الساردة: “لا أحد يتوقع أن يستمر العالم في الوجود دون وجود بلدنا قويا معافىً” تحيلنا على ضرورة وجود قوة تحكم العالم، تضبط النظام، ولو بالعنف وقوة السلاح، بمعنى أن العالم لابد له من شرطي.

وظف الكاتب مصطفى لغتيري الميثولوجيا من خلال قصة الطائر الأسطوري حربوش الكائن الدموي العنيف، الذي خرج إلى الوجود من الأزل. وكأن الكاتب يشير إلى أن العنف كائن ضروري متحد بتكوين الإنسان.

يأوي رجل وامرأة إلى كهف وسط الأدغال. يندهشان. كل شيء جديد عليهما. يبدآن في التأقلم، ينجبان، ينجذب الأبناء نحو بعضهم الأنثى نحو الذكر والعكس، يحدث تنافس حول الإناث، تقع جريمة قتل، الأخ يقتل أخاه، الدماء تتسلل إلى جذور الشجر، تتغير الثمار، يلتهم طائر صغير من تلك الثمار فيتحول إلى طائر عملاق قاتل.

الحربوش رمزا للدم، يبتدئ مساره الزمني داخل النص من بداية التكوين، إلى مطلع الألفية الثالثة. وجوده رهين بوجود أشجار الدم التي تسقى من دماء القتلى. إنه النظام الذي يعيش بالحروب، يخلق الحرب ويحركها، يدمر ليستمر، مهمته تحريض القادة وتحويلهم إلى قَتلة. تتحدث الرواية عن حقب مشتعلة قادها محاربون دمويون كالإسكندر، جنكيز خان، هولاكو، الملك ريتشارد قلب الأسد، جورج بوش وتدمير أفغانستان والعراق وانفتاح بؤر التوتر على الفوضى.

الطائر الأسطوري يمثل الشر البحت، لكنه لا يعتبر أن ما يقوم به شرا، بل بركة يمنحها للعالم. يتحدث بوصفه ذاتا ساردة في النص “في طريقه نحو الأراضي المقدسة أشعل ريتشارد حروبا بلا حصر وقتل ما لا يحصى من البشر، ودوما بركتي تحف به من كل جانب”.

نحن نعلم أن كل متهم، كل مرتكب جريمة، كل محكوم بالسجن أو الإعدام حتى، إلا ويعتقد أنه بريء، لأنه برأيه لم يرتكب ما يستحق عليه العقاب. فمهما بلغت الوقاحة بالذات فإنها لا تعتبر ما تقوم به من شرور خطيئة إلا من وجهة الآخرين، أما بالنسبة لها فهي تعتبر ذاتها تقوم بما يجب عليها أن تقوم به، فقيمة الشر والخير تبقى نسبية، بحيث أن ما يقوم به الشخص من صواب يكون خطيئة بالنسبة للآخرين فحسب لا بالنسبة إليه هو كفاعل للخطيئة. هنا تتقاطع رواية (أحلام المسيسيبي على ضفاف سبو ) مع رواية (قطز، فرسان وكهنة) التي تنتمي كذلك للفانتازيا التاريخية للروائي السعودي منذر قباني والتي طرحت لنا مفهوم الخير والشر كوجهة نظر، كرأي، وليس كحكم قيمة أو حقيقة قيمية، بل هي مسألة خاضعة لمصلحة الفرد والجماعة.

تقدم لنا الرواية من خلال أسطورة الطائر مجموعة من النظريات الحربية في فنون القتال وكيف تدار الحرب، نجد مثلا أن ما بعد الانتصار في الحرب هو التركة الأصعب في الحكم. يقول السارد: “فما يلي الحروب من أحداث يكون أحيانا أكبر وأشد من الحروب نفسها، وقد ينقلب النصر إلى هزيمة إذا لم يتمكن المنتصر من تدبير أمور ما بعد النصر”.

نجد أن التوسع العسكري والامتداد الإمبراطوري الأفقي والعمودي والاستحواذ على أكبر رقعة جغرافية هو مجازفة خطيرة. نقرأ :”هكذا امتدت الإمبراطورية بشكل غير مسبوق، وإذا كان في ذلك مجد وقوة ومتعة لا تنكر، ففيه كذلك مكامن الضعف كامنة، فهذه الرقعة الواسعة من الصعب التحكم فيها، فوقعت المكائد والخذلان والخيانة والعصيان والتمرد والدسائس”.

كما أن الرواية شهدت عدة نقاشات بين شخصياتها كتعبير عن نقاش فكري مطروح على مستوى الواقع ابتداءا من حلقة النقاش التي تشكلت في مأوى المتطوعين حول تكفير العرب ولعنهم والمطالبة بإبادتهم لأنهم أصل كل الشرور.

 

البعد الديني في خطابات الشخصيات:

حضور الخطاب الديني-السياسي في الرواية بما يخدم دينامية الشخوص من جهة وبما يكشف توجهات الجماعات المتضامنة في العمل التطوعي، أو ما سمته الرواية “التضامن العلني والصراع الخفي” على أسس دينية عندما طرحت واقعة تداول خبر عدم وجود يهود بين القتلى في حادث البرجين برغم أنهم يشكلون أغلبية موظفي المركز مما أثار شكوك الجميع.

الجزء غير المفهوم في الرواية -اللغز- هو كيف اختفى اليهود يوم التفجير. أحمد الرجل الأسود المسلم المتطوع الآخر يفجر السؤال/ القنبلة وسط جميع المتطوعين في ليلة نقاش من ليالي التطوع.

تعترض سؤاله فتاة يهودية متطوعة متهمة إياه بمعاداة السامية بينما كل الدلائل تدين العرب وحدهم.

النقاش يمتد إلى بيت أم جانيت التي لم يعجبها التعميم في اتهام العرب فليس كل العرب إرهابيون.

تتحدد هوية شخصية أم جانيت داخل رقعة النص في الجانب المتعقل من البشرية. فإذا كانت الأحداث المرعبة تذهب بالعقول، تخلط الأمور، تحرق جميع الأوراق، تساهم في إنتاج وتناسل الاتهامات المجانية لكل المخالفين والخصوم فإن أم جانيت كانت متأنية في الحكم ولم ترد لابنتها أن تنزلق نحو العنصرية والتطرف. فليس لأن بعض العرب فرحوا بالتفجير معنى أنهم إرهابيون ففي أمريكا اللاتينية تمة من فرح بالتفجيرات كذلك فلماذا لا نتهم اللاتينيين بالجريمة.

الرواية وأسطورة الجنس النقي:

ليست مهمة الكاتب أن يكشف لنا عن مغزى أن تحمل بطلة القصة الأمريكية جانيت في عروقها دماءا عربية، فالكاتب مصطفى لغتيري يدرك أنه لا يكتب لقارئ فارغ، إنه يعتمد على ذكاء قارئ لا يجهل التعدد الإثني والثقافي للشعب الأمريكي، لذلك فهو لا يدخلنا في تعقيدات لا داعي لها كي نحدد مغزى النص. وبالتالي يمكن أن ندعي بأن أمريكا أيضا تجري في عروقها دماء عربية وهي الحقيقة التي اكتشفتها جانيت من أمها عندما أخبرتها بأصولها المغربية. هنا الرواية تطرح بإلحاح موضوع الجندر والجنس النقي، هل أصبح العالم هجينا دما مختلطا من كل الاعراق، هل انتهت أسطورة صفاء النوع، هل الاعتبار بالسلوك والفعل بغض النظر عن أصالة العرق ونوازع الدين واللون كمحددات لفعل التعايش، على عكس التركيبة النفسية المتعالية للشخصية العنصرية حين تعتبر ذاتها الشخصية المهمة الوحيدة الكفيلة بقيادة العالم؟.

وفي مشهد آخر تعكس السفينة العبارة التي نقلت الجنود الأمريكان إلى الساحل المغربي البعد الهوياتي المتعدد للمجتمع الأمريكي، بما تشكله من خليط من مختلف الأجناس والألوان والثقافات في أوساط الجنود، ولو أننا نحن كقراء، نتساءل عن إمكانيات التعايش في وسط اجتماعي متعدد حد التناقض، ألا يعدو أن يكون هذا التجمع البشري مجرد كتلة بشرية من المرتزقة والقَتَلة المأجورين؟.

بين أحمد المسلم وإسرا اليهودية وصراع الحضارات:

تبتدئ لحظة التقارب الثقافي والعاطفي بين جانيت (الشخصية المركزية في الرواية) وأحمد من اللحظة التي رد فيها أحمد على الفتاة اليهوية إسرا أثناء تناول وجبة طعام في مأوى المتطوعين مدعية أن العرب همجيون ولا يحسنون إلا التدمير. بينما كان موقف أحمد يعتقد أن العرب أصحاب حضارة مثبتا وجهة نظره لإسرا بحضور العرب القوي في تاريخ العلوم ليس أولها اكتشاف الارقام الحسابية مع عالم الرياضيات العربي الخوارزمي، بمعنى أن العرب من مؤسسي الحضارة وأحد أعمدتها تاريخيا، مشهد يحيلنا على حقيقة أثبتها المؤرخ الأمريكي وول ديورانت في كتابه الضخم (قصة الحضارة) بأن الحضارة آتية من الشرق. ولا يعنينا الجدال الدائر عن أصل الحضارة شرقية أم غربية، إغريقية أم كنعانية (عربية) في تصور المفكر الأمريكي الآخر جورجي إم جيمس في كتابه (التراث المسروق)، بقدر ما يهمنا أن للعرب مشاركة حقيقية في تاريخ الحضارة الإنسانية، كما انتصر لهذا الطرح المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) ومفكرون غربيون آخرون.

موقف أحمد الشاب الأسود في الرواية يعكس موقف هؤلاء المفكرين المنصفين، الموقف الذي جعل الفتاة الشقراء جانيت تعجب به وتقترب منه أكثر، بل وتحبه. إننا أمام نموذج الشخصية المنصفة التي لا تعميها خصومة الآخر عن الاعتراف به ككيان مؤثر في صناعة الحضارة الإنسانية.

المؤسسون الدمويون في الرواية:

يتحدث كلارك عن تأسيس أمريكا وظاهرة الاسترقاق التي طالت السود الأفارقة والمعاملة اللاإنسانية التي عومل بها الهنود الحمر السكان الأصليون لأمريكا وكأن الكاتب يريد أن يعزز لدينا فكرة الجانب العنيف واللاإنساني في تأسيس الحضارات، أمريكا تأسست على أنقاض الدم والقتل. إنه يحاول أن يزيل من أذهاننا أسطورة (البناة المؤسسون المثاليون). فكما أن العلوم تأسست على تاريخ الأخطاء العلمية بحسب غاسطون باشلار، نفس الشيء بالنسبة للحضارة حسب إدغار موران في كتابه (ثقافة أوربا وبربريتها) حيث اعتبر أن أي حضارة متقدمة هي نتاج تاريخ دموي.

فلسفة التغيير في الرواية:

ليس المال وحده من يغير نظرتنا للكون، للحياة، للجمال، للأشياء، فقد يتدخل المال في نقلنا من وضعية سيئة إلى وضعية جيدة، بيد أن المعرفة كفيلة بتغييرنا كذلك.

وبما أن المعرفة تولد التفكير والتفكير يؤدي حتما إلى التغيير في الرؤى والمواقف والسلوكيات فإن الرواية تطرح ما يمكن تسميته بتبعات المعرفة عند مقولة جانيت: “معلومات لا حصر لها تغير تصوري للحياة وللناس من حولي”. فليست الأحداث وحدها التي تغير تصرفاتنا.

لقاؤها بأحمد من جهة الذي فتح لها آفاقا متجددة نحو المعرفة وتغيير تصوراتها عن الحرب، ساهمت فيها أيضا مشاهدتها لأحداث فيلم سقوط الصقر الأسود رفقة صديقها أحمد، الذي يتحدث عن تدخل أمريكا في الصومال والتدخل في مصير الشعوب المستضعفة.

أيضا، لقاؤها بمذكرات جدها من جهة أخرى. والتي بدأت تكشف لها عن أصولها المختلطة وهوياتها المتعددة أمريكية عربية إفريقية بما يجعلنا أمام تهاوي أسطورة الجنس النقي، كما أشرت قبل قليل، التي طالما شكلت مادة للأفكار العنصرية المتطرفة وسببا لاشتعال حروب تطهير عرقي في بؤر كثيرة من العالم. تقول جانيت: “ففي وقت قصير أضحت هويتان جديدتان تتلاعبان بي، فدوما اعتبرت نفسي أمريكية حتى النخاع بصفاء متوهم، ولكن ها أنذا أكتشف أصولي العربية التي أضحت مؤكدة ولاشك فيها، وها هي إفريقيا تحاول من جانبها أن تنال حظا من خلال مراودتي عن نفسي”.

رتوش هامشي:

بعض المعطيات التاريخية لأهميتها وحمولتها الدلالية في رأيي وددت لو تناولها الكاتب بطريقة حكائية، كقصة، كتجربة عاشتها الشخصية، بدل أن تقدم في الرواية كمعلومة.

اللافت من خلال مذكرات المجند كلارك أننا أمام صفحات غنية بالمعلومات التاريخية التي تبدو لأول وهلة أشبه بمعارف أكاديمية لكنها ضرورية لبناء الصرح الروائي مادامت تخدم الهدف النهائي للسرد، ومادام للكاتب الحق في أن يورد أي شيء يساعد على تطور الأحداث بحسب النقاد، إذ لا نتصور شخصية أساسية داخل نص أدبي دون أن نحيط بكل الروابط التي تربطه بالحدث.

كتلك التي تتحدث عن بداية الانتقال من التقليدي إلى العصري، حينما شرع الأمريكان في توزيع ملابس أمريكية على المغاربة، وهنا تشير الرواية إلى موضوع مهم يتعلق بقابلية التحديث في المجتمعات الفقيرة (المتخلفة/المحافظة).

تيمة التحديث في مغرب ما بعد الاستعمار:

الاقطاعيون المغاربة الجدد، استفادوا من تعاونهم مع المحتل الفرنسي من حيث المكانة الاجتماعية أعيان، ومن حيث المستوى التعليمي مستفيدين من تعليم عصري في جامعات فرنسا باريس.

كلارك سيتعرف على فتاته من وسط هذه الطبقة المتنفعة. الغالية، الفتاة المغربية المتعلمة في مدارس أوربا بملابس باريسية. تتحدث الرواية هنا عن التوجه الاجتماعي الجديد نحو العصرنة كأثر للاحتكاك المباشر بثقافة الأجنبي والانبهار بقوته وتفوقه على اعتبار أن التحديث يتولد من المبارزة والصراع بحسب د.أحمد كوال في كتابه (التحضر، التحديث، الحداثة في المجتمع المغربي الحديث)؟.

الاجتماع الإنساني بين الأصيل والدخيل:

بسفر جانيت وأحمد إلى القدس في مهمة إنسانية، طرحت الرواية مشكلة (السكان الاصليون) بشكل لافت، وليس من شك أن السوسيولوجيا قد بحثت الموضوع غير أنه موضوع امتد إلى الحقل الروائي. حاولت الرواية بخلق نوع من الصدام بين أحمد الأمريكي الإفريقي المسلم وبين إسرا الأمريكية اليهودية أن تدخل القارئ في النقاش الدائر بينهما حول من له الأحقية في القدس، ودعاوى إسرا بأن اليهود سكنوا القدس قبل العرب باعتراف القرآن، وإذا كان الأمر كذلك هل معنى ذلك أن كل من سكنوا أرضا يوما يجب أن يعودوا إليها ويتملكوها من جديد، كأن يعود الأمريكان إلى أوربا والسود إلى إفريقيا.

السفر ومعاينة المواجهات بين المتظاهرين الفلسطينين وبين جنود الاحتلال، عسكرة المسجد الأقصى بوصفه شيئا مقدسا، هدم المباني بحجة عدم الترخيص، الطرد والتشريد للأسر الفلسطينية، الحواجز الأمنية الخ.. من ثم تطرح الرواية الأثر الذي يمكن أن تخلفه المعاينة الحقيقية والمتابعة عن كتب لحدث معين ومدى قوة طاقته الإقناعية وفاعلية تلك الطاقة وتجاوزها للتحليلات البعيدة عن المعاينة، فجانيت التي كانت تكره العرب بسبب الاشاعات وضغط البروباغاندا التشويهية ستنقلب إلى أكبر مدافع عنهم عندما زارت القدس وشاهدت كيف تنتزع الملكيات من أهلها وكيف يتم طردهم من منازلهم الشيء الذي دفعها إلى القيام بحركة إنسانية وتأسيس جمعية (إنها أرضنا).

هذا التحول في موقف جانيت من معاداة العرب إلى مساندتهم، هل يمكن أن نعتبره محاولة نصية أو دلالية من الكاتب تدفعنا إلى الاعتقاد بأن التفجيرات التي حدثت في الحادي عشر من سبتمبر في بداية الرواية لها ما يبررها إذا اعتبرنا أن أمريكا تتحالف مع اسرائيل التي تمارس كل أنواع الاضطهاد بشعب أعزل؟.

مذكرات الحرب بوصفها شاهد عيان:

يبقى سؤال يتبادر إلى الذهنْ:

لماذا اختار الكاتب مصطفى لغتيري أن تكون شخصية الرواية الرئيسية الذي هو المجند كلارك قارئة للأدب وبالتالي شخصية منفتحة على الكتابة، كتابة المذكرات والمقالات، مع العلم أن تعاطي الأدب في صفوف الطبقة المجندة لا يشكل أكثرية مهمة بالنظر إلى المهمة العسكرية المنوطة بها كآلية للقتل، ألأن المذكرات تعتبر وثيقة تاريخية من شاهد عيان مباشر، وبالتالي تحيلنا الرواية على مسألة التوثيق في الكتابة التاريخية، على اعتبار أن المذكرات أكثر وثوقية ومصداقية من النقل الوسائطي بكثرة الوسائط التي تزيد حتما من إرباك نقل الحدث؟.

تمة تيمات أخرى أشارت لها الرواية نذكر منها؛

الحرب الوحشية، الصدمة النفسية، عداوة الإنسان للإنسان، عملية غسيل الدماغ التي يتعرض لها المجندون لارتكاب أي شيء ( إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما)، حالات الاكتئاب المزمن التي تصيب المجند الأمريكي، معاناة الآخر هل تهمنا؟ كما يقول الرجل الأمريكي: “يجب أن نهتم بمشاكل بلدنا أكثر من مشاكل بعيدة عنا” ص 147، كلها عناوين ننتشلها من مذكرات كلارك تتماشى مع ميولات الطائر حربوش بوصفه إله الدم إذا كان ممكنا أن نؤله الأشياء أو نؤنسنها. أعتقد أن القارئ لن يجد أدنى صعوبة في اكتشاف العلاقة التي تربط بين الرمز الميثولوجي الطائر الدموي وبين صور التدمير والدم والعنف الذي تحدثت عنه مذكرات كلارك ومشاهدات جانيت.

بالنهاية نحن أمام رواية ممتعة باحداثها وتيماتها وعناصرها الجمالية والأدائية تجعلنا نعتقد أن الحروب لا غالب فيها ولا مغلوب، فالكل خاسر حتى المنتصر، وهي بلا شك فتحت أمامنا كل المبررات الممكنة واللاممكنة لتلك الحروب.