الجسد وحرية الإبداع.. مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي -هيئة التحرير-

بداية أعلن أنني سأعفي نفسي من الخوض في مفهوم الجسد، الذي يبدو أوسع وأعمق من بعض النظريات والتصورات السطحية، التي تختزله في جسد المرأة، وتحديدا فيما يتعلق بالأعضاء التي تكون غالبا موضوعا للإثارة الجنسية، إذ أظهرت مجموعة من الدراسات الحديثة أن الجسد مفهموم شاسع، يضم كثيرا من الظواهر والأشكال والمفاهيم والتمثلات، التي قد تبرز من خلال الكتابة، او تبرز الكتابة من خلالها، في بعدها الإبداعي التخيبلي أو في تأثيرها على المتلقي، او في التمثلات المرسخة في الأذهان، والتي يزخر بها المجتمع، وتتمحور حول مفهوم الجسد افرادا وجماعات، والتي قد يشط بها الخيال إلى حدود غير معقولة أحيانا.
ومع كل ذلك، يبقى الفهم المتداول للجسد في الكتابة الإبداعية وخاصة الروائية، والذي يفرض نفسه على المرء، هو تعامل الكاتب مع الجسد كمعطى فيزيقي مادي ذي بعد بسيكولوجي، له متطلبات غريزية، تحركه أو يسعى إلى تلببتها بشكل من الأشكال أو يكون هو نفسه موضوعا لتلك الرغبات. بما يحيل على مفهوم الليبيدو الفرويدي، الذي جعل من الطاقة الجنسية محركا أساسيا في حياة البشر من أجل تحقيق أهدافهم، واذا ما تعرضت هذه الرغبات للكبت بسبب سلطة الأنا الأعلى يصاب الانسان المعني بالأمر بأمراض نفسية، قد تكون هي الأخرى دافعا قويا للتعويض عن طريق أعمال أخرى، غالبا ما تكون أعمالا فنية كما ذهب إلى ذلك سيغموند فرويد، وجسده في تحليل لبعض الاعمال الفنية، كما فعل تحديدا مع أعمال ليوناردو دي فينتشي وخاصة لوحته الجوكاندا او الموناليزا. من هذا المنطلق تم اعتبار الليبيدو محفزا لبناء الحضارة.
ولا يخفى على أحد أن الرواية العربية عموما، كانت وما تزال تتعامل بتحفظ كبير مع هذا المعطى، أقصد التعاطي مع الجسد، الذي يفرض نفسه في الكتابة حتى وإن تجاهله الكاتب لأسباب متعددة، تنبع في غالبها من الرقابة المجتمعية او الرقابة الذاتية، وإذ ا ما قاربه كاتب في نص من نصوصه الروائية لضرورة فنية ما أحدث ضجة في المجتمع، لا تكون في أغلب الأحيان بسبب قراءة نقدية للرواية، بل يكون الحكم “الاخلاقي” هو محركها، والمعيار الذي يلتجئ له من يطلق مثل هذه الاحكام، في مجتمع ما زال لم يحسم مع نظرته وتصوره للجسد، الذي يسجنه في نظرة نمطية محافظة مرتبطة بتصور ما للأخلاق، دون ان يراعوا الجوانب الأخرى، مما يسقط الجميع في نوع من السكيزوفرينيا، إذ يصبح الجسد مشتهى ومكروها في نفس الوقت، فلا أحد يجهل هوس المجتمعات المقموعة بالجسد، ولكن ما أن يظهر في رواية أو مشهد سينمائي حتى تثور ثائرة من كانوا بالأمس يتلذذون به، سواء كان واقعيا او افتراضيا، يستمتعون به في الخفاء بعيدا عن أعين الفضول، غير أن الإحصاءات التي تظهر تباعا تفضحهم، فقد ثبت أن اكثر المجتمعات ادعاء للطهرانية هي نفسها الأكثر بحثا عن المشاهد الساخنة عبر الانترنيت.
لذا يمكم القول إن في غياب حرية الإبداع ما زال التعامل مع الجسد في الرواية يشكل استثناء وصدمة للمتلقي المحافظ، الذي مازال يطابق في ذهنه ما ببن الواقع والخيال، وما زال لم يستوعب بعد أن العمل الفني يرتكز على البعد التخييلي ويحتكم إلى الضرورة الفنية، فلا يتعين الحكم عليه إلا من خلال أدوات النقد الفني وليس الحكم الاخلاقي. فالرواية والفن عموما يسعيان إلى إيهام المتلقي بحقيقة ما يقدمانه له من إبداع، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الصدق الفني، الذي تتمثل وظيفته الأساسية بإقناع القارئ بواقعية ما يقدم له، بما في ذلك الجسد طبعا، الذي يجب ان يظهر في الرواية محاكيا ومشابها إلى حد ما للجسد الواقعي، وهذا ما نلاحظه في ثقافات اخرى، تجاوزت النظرة الضيقة للجسد، وأضحت تنظر إليه كمعطى حضاري، لذا نجده متجسدا في جميع الفنون بما فيها النحت والأدب والسينما، ولعل ذلك ما أثر على نظرتهم الشخصية للجسد، فحفزهم على أن يهتموا به من خلال الرياضة والرقص والغذاء، فتطورت لديهم ثقافة راقية للجسد، يلاحظها المتلقي في اللوحات الفنية والفنون الاستعراضية عموما، فيعجبنا -حتى ونحن متمسكون بنظرتنا المحافظة- كجسد جميل ومتناسق ورياضي ورشيق وفاتن، لكننا نظل متحصنين بنظرتنا الدونية له في وعينا ولاوعينا الفردي والجماعي.
عموما لقد عرفت الرواية العربية تطورا مهما بخصوص تعامل المبدعين مع الجسد، فظهرت روايات تتمبز بكثير من الجرأة في مقاربتها للجسد، سواء كان جسد رجل أو امراة، بل خاضوا حتى في اعتبر محظورا خاصة ما يتعلق بمفاتن المرأة والرجل على حد سواء، وزاد هذا الامر توهجا حين فرضت المراة الكاتبة نفسها في المشهد الروائي بنصوص مختلفة ظهرت بالخصوص في اللمسة الفنية للمرأة الكاتبة بشكل واضحة، فمدت الرواية العربية بتصور اكثر جرأة للجسد الأنثى، جعلت منه ذاتا راغبة ومشتهية وليس مجرد موضوع لرغبة جنسية للرجل. كما هو سائد ومكرس في ثقافتنا العربية.