روايات الخيال العلمي مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي-هيئة التحرير-

تعد روايات الخيال العلمي صنفا أصيلا ينتمي إلى جنس الكتابة الروائية، بل يمكن اعتباره من أعمق الكتابات الروائية، لسبب بسيط وهو اعتماده شبه الكلي على الخيال، رغم توظيفه للحقائق العلمية، والتطورات التكنولوجية، والكتابة الروائية -كما هو معروف- لا يستقيم عودها بدون الخيال، هذا الأخير الذي يعتبر-في حقيقة الأمر- رأسمال الكاتب، ولا يمكن أبدا ان ينجح الأديب في مهمته ككاتب دون الاستناد إليه، ومع ذلك، ورغم هذه الأهمية التي يكتسيها ادب الخيال العلمي، يلاحظ للأسف عدم اهتمام الكتاب العرب بهذا الصنف من الكتابة، شأنها في ذلك شأن بعض انواع الكتابة الروائية الأخرى، التي تفتقر إليها المكتبة العربية كالرواية البوليسية مثلا، مما يجعل المتن الروائي العربي فقيرا في هذا الجانب، ويسم -بالتالي- المخيال العربي بالنقصان، عكس ما يميز الخيال الروائي عالميا من تنوع وعمق وتعدد في مجالات الكتابة الخيالية، وقد يرجع ذلك إلى أسباب عدة، أظن أن من بينها عدم تقدير هذا النوع من الكتابة، بالإضافة إلى تخلف العرب في مجال البحث العلمي، الذي يعد الركيزة الثانية للكتابة ضمن روايات الخيال العلمي، إذ لا يخفى على أحد أن كاتب روايات الخيال العلمي ملزم بالتسلح بالنظريات العلمية والفيزيائية والتكنولوجية وحتى النظريات الفلسفية أحيانا، إذ أنه لا يقدم مادته العلمية بطريقة أدبية بعيدا عن القيم، هذه الأخيرة التي تحكم الإنسان وتوجهاته في علاقته مع نفسه ومع الآخرين، من خلال التركيز على الثابت والمتحول فيها، حتى يكون استشرافه للمستقبل كاملا ومتكاملة إلى حد ما، فالأدب عموما يعد الإنسان انشغاله الأساسي، حتى وإنلم يصرح بذلك او حاد عنه بشكل من الأشكال.
شخصيا حين عزمت على كتابة نص روائي في الخيال العلمي كنت محكوما بعدد من المحفزات، أولها تنويع موضوعاتي في مجال الكتابة الروائية، فقد كتبت سابقا الرواية الاجتماعية والرواية التاريخية والرواية النفسية والرواية البوليسية، وغيرها من المواضيع التي تشغل عادة بال الكتاب عموما، فكان لابد أن ينال صنف رواية الخيال العلمي نصيبا من انشغالاتي الأدبية، إذ أنني دأبت منذ انخراطي في عالم الإبداع الأدبي على محاولة تجديد كتاباتي شكلا ومضمون مع كل كتاب جديد، بما يعني انشغالي بالتجريب كآلية موجهة في الكتابة، أما المحفز الثاني فيتمثل في كوني قد نظرت دائما إلى روايات الخيال العلمي باعتبارها فرصة كبيرة للتحليق بالخيال بعيدا، ذلك الخيال المجنح، الذي يسافر بنا في الزمان ويحط الرحال في المستقبل، لإعطاء وجهة نظر استشرافية حوله، إنها رحلة لايمكن إلا أن تكون شيقة وممتعة، خاصة إذا سندتها معلومات علمية تتفاوت في دقتها، فما دمنا في مجال الإبداع الأدبي، فمن الصعب أن نطالب الأديب بمعلومات دقيقة، كما هو الشان بالنسبة للكتابة العلمية البحتة، التي تتميز بالدقة العلمية، لأن الأديب يتحرك -ببساطة- في ميدان يؤمن بالنسبية إلى أقصى الحدود، وتحكمه وجهة النظر، فضلا عن تحركه في مجال إنساني بحت، محكوم بكل ما هو إنساني من قبيل العاطفة والشك واللايقين، لكنه بالرغم من ذلك، وبفضل الحبكة المحكمة، وآليات الإيهام بالواقعية يمكن للكاتب المتمكن أن يجعل هذه المعلومات العلمية في الرواية مقبولة ومستساغة من قبل القارئ، تحقق له المتعة المطلوبة من الإبداع الأدبي عموما، والإبداع الروائي في مجال الخيال العلمي خصوصا، كما أنها قد لا تخلو من فائدة بفضل المعلومات التي تقدمها له، والتي حتى وإن خلت من الدقة العلمية بسبب طغيان الخيال المجنح، الذي يفرضه التداول الأدبي للموضوع، فإنها مع ذلك تستند على معلومات علمية، وهذا تحديدا ما كان يشغلني وما يزال، فمن طبعي الاهتمام بمستجدات العلوم والتكنولوجيا ولو من باب المعرفة العامة والشمولية حتى وإن تعذر علي تملك جميع التفاصيل، كما أن هذا النوع من الكتابة يسعى إلى تحريك مخيلة القارئ من خلال طرحه لفرضيات ممكنة الحدوث، غالبا ما تستهوي المتلقي، وتتيح له التماهي معها بشكل من الأشكال. كما لا يجب أن يعزب عن أذهاننا أن أكثر الاختراعات التكنولوجية والعلمية كانت في بدايتها مجرد خيال أدبي ممتع. صاغها أديب حالم، وآمن به فيما بعد عالم مخترع، واشتغل عليها بكل جد، فأضحت بمرور الزمان حقيقة واقعية لا يعلى عليها.
لكل ذلك ففي رواية “أمومة لم تكتمل” التي صدرتها طبعتها الأولى عن دار “المثقفون العربي” بالقاهرة تناولت فيها بعض المستجدات العلمية والتكنولوجية الحديثة، ومن خلالها حاولت استشراف العالم بعد مائة عام تقريبا، خاصة على مستوى التطور التكنلوجي ومدى تأثيره على القيم، في مجتمع متحول يتميز بالقدرة الهائلة على التواصل واختلاط الأجناس التي تميل نحو التعايش حين والصراع أحيانا كثيرة، إذ أن المكان الذي تجري فيه الأحداث عبارة عن جزيرة وسط البحر الأبيض المتوسط، يشتريها الصينيون ويؤمها أناس من كل الجنسيات، لأنها اضحت جنة إليكترونية، تغري الشغوفين بالتكنولوجيا للقدوم إليها والعيش فيها، يحركها الطموح لبناء حياة جديدة، تكاد تنسلخ عن كل ما هو قديم، وتتطلع بشغف نحو المستقبل، الذي يعد عماده الأساسي التطور الالكتروني والتكنولوجي، بعد أن يمس جوانب في الحياة لم تكن تخطر على بال، خاصة في جزيرة، بنيت الحياة فيها على أساس التطور وقيادة العالم نحو افق علمي وتكنولوجي والكتروني أرحب.