ما معنى الإخفاق؟

جريدة أرض بلادي_

_مصطفى لغتيري_

 

هكذا وعلى حين غرة، حين طرح علي موضوع “الإخفاق”، ضمن مشروع استطلاع استهدف الأدباء، بنية نشره فيما بعد في كتاب، افترت شفتاي عن ابتسامة مخاتلة، وأنا لا أكاد أخفي شعوري بطرافة الموضوع وغرابته.. في نفسي قلت: عادة ما يهتم الناس بالنجاحات، ويحتفون بها، ويروجون لها لتكون ملهمة للناس، وقد تكون قدوة للبعض، يسيرون على خطاها، علهم ينهلون من معينها العذب قبسا من النجاح أو قوة معنوية تقودهم إلى طريقه، بيد أن الاهتمام بالإخفاق شيء يكاد يكون طريفا وساخرا، شيء يبدو وكأنه قد انبثق للتو من إحدى مسرحيات شكسبير ذائعة الصيت. نوع من الكوميديا السوداء، التي تجعل الحياة الإنسانية أقرب إلى الملهاة أو المأساة، من كونها حياة حقيقية، بتمثلاتها المتناقضة، وكأنها لعبة شيطانية من نوع ما تحيل مما تحيل عليه على فاوست في جحيمه.

تجاهلت كل ذلك ثم حاولت صياغة الموضوع في سؤال، بل أسئلة، لعل ذلك يسعفني في الفهم: الإخفاق.. ما هو؟ ما طبيعته؟ هل نقبل به؟ كيف يمكن التعامل معه؟ ما معنى أن تخفق الذات؟ هنا تحديدا وجدت نفسي في عمق الإشكال. أكاد ألامس جوهره ولو على استحياء. أستنجد بتفاصيل ترسانة نظرية، أظن واهما أنني راكمتها عبر حياتي الممتدة، لأواجه بها هكذا حالات: الفشل، الإخفاق.. خيبة الأمل.. سميها ما شئت، لكنها بمختلف تسمياتها تكاد تحيل على شيء واحد او هكذا توهمت أو شبه لي..

في حياتي وبعد تراكم تجارب عدة بحلوها ومرها، اعتبرت الإخفاق دوما جزءا لا يتجزأ من الحياة، مثله مثل النجاح حذو النعل بالنعل، كتبت يوما في إحدى المناسبات بأنني لست سوى المحصلة النهائية لكل تجاربي بنجاحاتها وإخفاقاتها، لكنني أعتبر الإخفاقات غالبا ما تكون أعمق في تأثيرها القريب والبعيد على حد سواء، إنها تجعل المرء يقف في مواجهة الذات، تدفعه للشك في كل شيء، تحفزه على ملامسة قرارة النفس، عمقها، مداعبة مشاعره الكامنة هناك في الأغوار السحيقة، وكأنني أكاد أقول بأن تجربة الفشل أكثر إنسانية من النجاح. فحين يداهم الإخفاق المرء غالبا ما ينكص إلى الوراء، يتقهقر نحو قوقعته منفردا. يحاول بعد ابتلاع المرارة أن يفهم لم حدث ذلك. وكيف يمكنه أن يتجنب حصوله مستقبلا. عكس النجاح الذي يتوفر على قدر من البلادة والاستعراض الأجوف.

من حيث العمق لا تحلو النجاحات إلا بكونها ردا قويا عن إخفاقات حقيقية أو مفترضة. أي إنها تجربة تكاد تحمل بين طياتها الشيء ونقيضه، هي تطلع مشروع للنجاح، مع ما يرافق ذلك من شعور بالزهو، لكنه في الآن ذاته يتضمن نقيضه، الذي لن يكون سوى الإخفاق الذي يتربص بالكائن الهش، بكل خطوة يخطوها نحو تحقيق النجاح المنشود. كما لو أنه ظل موارب، مخاتل، عنيد، كامن بنوع من الظهور، يتلبس الكائن للحظات، ثم ما يلبث أن ينفصل عنه. يبتعد قليلا، ليتلصص على خطواته من مسافة معقولة، لكنه أبدا لا يفلته من مجال نظره.

هل أخفقت يوما؟ ربما يستقيم السؤال حين يعكسه، هل لم أخفق يوما؟ هل حققت كل ما أصبو إليه في حياتي؟ سأكون واهما لو أجبت جوابا مباشرا. فكل نجاح يحمل في تفاصيله إخفاقا من نوع ما. هناك أحلام على المستوى الشخصي. تحقق كثير منها. لكنها في العموم تحقيق لطموحات كانت دائما تختزل لتعانق ما هو متاح وممكن التحقق. ماذا أعني بالمتاح؟ ألا يكون هذا المتاح إخفاقا من نوع آخر؟ وكأنني أحاول أن أغطي به عن عدم قدرتي على تحقيق أحلام أكثر جرأة. من الممكن ذلك. هناك أحلام كبرى ترتبط بالوطن، دوما شغلت وجداني، ولو بنوع من التعاطي الرومانسي الحالم، وأخرى أعتبرها صغرى ملتصقة بالذات. وحين أتأمل المسارين معا، أجد هناك إخفاقات كبرى، لا أعتبر نفسي مسؤولا مباشرا عنها، محملا ذلك بنوع من الخبث للحتمية التاريخية، ومع ذلك أشعر انني في أعماقي أحمل بعضا من وزرها، تثقل على قلبي، وكأنني المسؤول عنها، يشبه الأمر في ذلك الخطيئة الأولى التي يتحمل المسيحي وزرها رغم أنه لم يشارك فيها.

كم تمنيت وطنا مزدهرا، لا يضطر فيه شبابه للهجرة غير الشرعية من أجل تحقيق غد أفضل. كم تاقت نفسي لوطن يحقق العيش الكريم لكل أبنائه.. كم راودني الحلم في وطن تتوزع فيه الثروة بعدل وإنصاف بين الجميع. كم داعبني الامل في وطن يقف ندا للند مع باقي الدول المتقدمة، يساهم في الحضارة الإنسانية من أجل تطورها وسعادتها.. طبعا لم يتحقق كل ذلك ولا يمكنه أن يتحقق في ظل الظروف الحالية.. إنها إخفاقات أحاول أن أداريها ببعض ما تحقق عموما، وفي نفسي أردد باستحياء بلساننا المحكي” اللهم العمش ولا العما”. وأكون حينها مضطرا للحد من تطلعاتي لتصبح أكثر واقعية حتى في أحلامي، وأعض بالنواجذ على ما هو متاح ومتحقق، أي أنني أصبحت بالرغم عني ومني أكثر واقعية.

على المستوى الشخصي. نظرتي للنجاح تختلف كثيرا عما هو شائع، أبدا لا أقارن نفسي بغيري، لا يشغلني ما يشغل السواد الأعظم من الناس.. أسعد بالمكاسب البسيطة التي أحققها، رغم أنها تبدو لغيري كبيرة. أسعد لنجاحات الآخرين، وأشاركم بعض فرحهم بها، لذا لا مجال عندي للتفكير في الإخفاق. فالحياة تجارب وما تحقق لي منها أسعد به، وما لم يتحقق أعتبره دعوة للاشتغال بمجهود أكبر، أو تغيير وجهة نظري للموضوع، أو تركه نهائيا ولسان حالي يقول” وكم حاجة قضيناها بتركها”. وقد يكون كل ذلك استراتيجية للحفاظ على الذات من قسوة الإخفاق.. ربما.. من يدري؟