مغربنا العميق .. ما أجملك! مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي-هيئة التحرير-
مصطفى لغتيري-

كلما أتيحت لي الفرصة لزيارة منطقة الاطلس المتوسط، أبدا لا أفوت الفرصة، أو أتركها تضيع من بين يدي سدى، أعرف حق المعرفة أنني خلال هذه الزيارة سأكون على موعد مع إشباع روحي لا مثيل له، إشباع يزودني بكثير من الطاقة للاستمرار مبتهجا في الحياة، وقادرا على الكتابة من جديد، بل وفي شتى المواضيع، حتى المتشعبة منها، كما يمنحني خلفية عميقة ومتنوعة لخلق عوالم قصصية، قد تتطور أحيانا لتصبح متونا روائية، كما حدث لي مع رواية ” على ضفاف البحيرة” التي اتخذت فيها من بحيرة “اكلمام ازكزا ” فضاء لأحداث، تقوم بها شخصيات، تغنت بجمال الطبيعة وسخاء الإنسان الأمازيغي، الذي لا يمنعه ضيق الحال من الجود بما تملكه يداه، ليرسم ابهى صورة ممكنة.. وكذلك الأمر بالنسبة لرواية ” الأطلسي التائه” التي انطلق فيها الشيخ ابو يعزى الهسكوري من ربوع الأطلس، لتأخذه عصا الترحال في ربوع المغرب، متتلمذا على شيوخ الصوفية، لينهل من علمهم وتجاربهم، وحين تعب من السفر وقضى منه وطره، لم يجد راحته إلا في إحدى قرى الأطلس التي تحمل إلى اليوم اسمه.
وكما هو متوقع، لم تشذ هذه الرحلة الجديدة نحو جبال الأطلس عن سابقاتها، كانت كالعادة واعدة حتى قبل بدايتها، بمفاجآت عدة، يخلقها المكان والإنسان معا، وبالإنسان تحلو الأمكنة او يفسد ذكرها.. تنقلت هنا وهناك، وفي كل مكان أحل به، يتملكني الشغف أكثر، وأعيش اللحظة بكل تفاصيلها، مرتشفا كل قطرة من قطرا البهاء، وجامعا كل اللقى التي تصادفني هناك.. قطعة من خشب، ورقة شجر، ريش طائر نادر، ابتسامة تائهة، ضحكة طائشة، لحن بديع، حركة خفيفة، نظرة زائغة، قطرة ماء عذبة، رذاذ ناعم ومنعش، يتطاير هنا وهناك، ليمنح الجسد بعض برودة وانتعاش هو في أشد الحاجة إليها.
في بحيرة بين الويدان تتراقص الشمس على صفحات المياه، التي تحافظ على حيادها رغم الحرارة المفرطة، تراها من بعيد متمسكة بوقارها، كشيخ طريقة، اعتكف وسط كهف في أعماق الجبل، ولا يبغي عنه بديلا، تحيط بالبحيرة جبال تخاصم خضرتها إلا من بساتين تمردت على قسوة الجفاف وحافظت على خضرتها اليانعة.
وحين تترك المكان بعد ان يعوضك المسبح داخل الفندق عما يمكن ان تفتقده من طراوة، تتجه نحو المكان المقصود.. شلالات اوزود، التي ما إن تدنو منها حتى يكتنفك شعور غامض، تشعر لحظتها وكأنك ترتد إلى سيرة الإنسان الأولى، حين كانت الطبيعة بكرا ما تزال، تتكامل مع الإنسان في كثير من صفاته، حتى انه يعتبر نفسه امتدادا لها وتعتبره هي ابنا غير عاق، يسعى لخدمتها بالكد والجهد والعرق، فتقدم له بالمقابل ثمارها هنيئا مريئا.
حين تشرف على الشلال يزداد ذلك الإحساس في داخلك شموخا، فتشعر فعلا أنك في بلد جميل، بلد بقدر ما هو متنوع، فهو كذلك قد اعطى لكل عنصر حقه حد الإشباع.. هنا الماء متدفق كسيل من الأحاسيس الجياشة، والخضرة تكتظ وتلتف حول نفسها متكاثفة، فتصل حد السواد، سواد يبهر العين وكأنك حين تراه، تظن نفسك إزاء دغل من الأدغال الاستوائية.
تيحبك قدماك في جولات متكررة نحو العيون المتدفقة، ونحو مساقط الماء المتراكمة، ثم في اتجاه البرك الكثيرة، التي يتجدد ماؤها باستمرار، لكن كل هذا الجمال سيظل صامتا إذا لم يعضده جمال من نوع آخر.. أقصد جمال الإنسان، الذي يوازي جمال الطبيعة في انسجام تام، ليخلقا مع سمفونية رائعة، فتشعر وكأنه قد اقتطع لطفه وجميل أخلاقه من بهاء الطبيعة، ليكتمل المشهد وتشعر بحق في أنك في المكان المناسب، الذي حلمت بالتواجد فيه دوما، فينطق لسانك بعغوية تامة عبارة تردد صداها في داخلك مرارا وتكرارا:
” ياه ما أجملك يا بلدي”.