“هل سنستفيد من التجربة الفلنلندية في التعليم؟ ( تدريس أقل تعلم أكثر “

إقتباس : علي باصدق
يقول الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور “باسي سالبرغ”: إنَّ أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلص من الجراثيم. وهل للتعليمِ من جراثيم؟! هذا ما تراهُ فنلندا، ويبدو أنها حدَّدت الوصف الصحيح للأساليب التي يجب على التعليم أن يتخلَّص منها، وهي في نظره ستةُ جراثيم هي كالآتي:1/ تكثيف المواد .2/كثرة الاختبارات والواجبات. 3/ إطالة أوقات المداومة. 4/ الدراسة المنزلية. 5/ الدروس الخصوصية. 6/ المواد المعقدة.
هذه كلُّها أساليب يؤكد سالبرغ أنّها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يتكئ عليها، لأنها ممارسات غير تربوية من شأنها إرهاق الأستاذ والتلميذ معًا، وإضعاف عملية التعليم ككل. دعونا نتحدث عنها قليلاً ونقارنها بالتعليم السائدِ ببلادنا.
الجرثومة الأولى وهي تكثيف المواد. وهي إحدى أهم الجراثيم التي يتصف بها تعليمنا وفق قاعدة التعامل مع الطالب بالكم وليس بالكيف؛ كم يحفظ من المعلومات؟ كم يتلقى من الحصص يومياً وأسبوعياً؟ كم يحل من الواجبات المنزلية؟ كم مرة يختبر؟ … أصبحنا -في منظومتنا التعليمية- نتعامل مع المتعلم وكأنه خزان معلومات، أو كما أسماه باولوفريري بـ “التعليم البنكي” الذي يصوِّر المتعلمين كأنهم حسابات بنكية يتم إيداع المعرفة في أذهانهم من قِبل الأساتذة..
لهذا تجد المتعلم يعبُّ ويخزن من المعلومات ما استطاع إليهِ سبيلا..! حتى إذا جاء الاختبار أفرغها في الأوراق وخرج من القاعة وهو لا يكاد يتذكَّر شيئاً، لأنه أفرغ ما حفظ من المعلومات! لقد وصفت فنلندا هذا الأسلوب بالجرثومة الخطرة على التعليم لأنه يتعامل مع المتعلم وكأنه مجرد خزان معلومات وليس ككائنٍ مفكِّرٍ له عقليته الناقدة، المحلِّلة، المتسائلة، وطبقاً لمفهومها هذا فقد تخلَّصت فنلندا من أول الجراثيم: تكثيف المواد. تقول مديرة مدرسة فنلندية: لا يمكنك أن تتوقع استيعاب العقل إذا ظل يشتغل متواصلاً دون راحة، لهذا فإن الحصص الدراسية في فنلندا مفصولة باستراحة لعب وترفيه مدتها ربع ساعة، يستريح فيها العقل ويتجدد فيها النشاط، ويتنوع فيها التفكير.
الجرثومة الثانية التي تخلصت منها فنلندا هي كثرة الاختبارات والامتحانات. لقد فعلوا خيراً في المتعلم بإبعاده عن شبحِ الاختبارات والامتحانات المرعب.
تشكل الاختبارات والامتحانات في تعليمنا عامل خوف ورعب للمتعلمين، بل ولأسرهم أيضاً لأنها مرتبطة بالمصير المستقبلي الذي يحدد اتجاه المتعلم. هل يمكنُ أن نتصور أن مصيرَ إنسانٍ يتحدد في غالبيته بحسبِ أوراق ولحظات بسيطة جداً من حياته في المدرسة؟ كيف كانت حالته حينها؟ مريضاً، أو قلقاً، أو خائفاً، أو يعاني من مشكلات أُسرية أو عاطفية.. كل ذلك لا يهم فالمؤشِّر هو “الإجابة عن ظهرِ قلب”..!
لم تقتنع فنلندا بمردود سياسة الاختبارات، لهذا حددت دور المدرس الفنلندي في مساعدة كل متعلم لفهم المادة داخل الصف، دون ملاحقة المتعلم بالامتحانات الطويلة والقصيرة والمفاجئة، أو مواسم الرعب النهائية.
ورأت هذه الدولة النابغة في التعليم أنَّه إذا اطمأن المتعلم في يومياته الدراسية، استطاع أن يفكر ويعبِّر ويتطور. أمّا التشديد والتهديد بالاختبارات، فله عواقب انسحابية خطيرة، ابتداءً بمشاعر التوتر والقلق، مرورا بالضغوطات النفسية الحادة، وصولا في حالات مؤسفة إلى المفاصلة بين التعليم أو الحياة، وكأن التعليم مناقض للحياة.
إنَّ أعظم ما تراه فنلندا في هذا الصدد هو أنّ دور المدرسة أكبر من أن تحكم على متعلم من خلال ورقة، فهي ترى أن التعليم ليس للتقييم بل للتقويم.
الجرثومة الثالثة هي إطالة ساعات المداومة، وتعني إنهاك المتعلم ذهنيا وإرهاقه جسديا، مما يتسبِّب في ضعف التركيز لديه، خاصةً إذا ارتبطت إطالة الوقت بحشو المعلومات الذي يسبب إهدار الوقت وزيادةِ الملل للمتعلم والمعلم على نحوٍ سواء..!
لقد رفعت فنلندا شعار “تدريس أقل، تعلُّم أكثر” وهو ما يعني تقليل وقت التدريس مع تعلُّمٍ أكثر، لأنّ فنلندا ترى أنّه لا توجد علاقة بين زيادة أوقات الدراسة والتفوق، بل على العكس من ذلك، إذ لوحظ أنّ الدول التي يتفوق متعلموها كانت تقلِّل من ساعات دوامها الدراسي…! في حين الدول التي أظهرت تدنيًا في مستويات متعلميها هي التي كانت تعتمد على زيادة ساعات الدراسة.
الجرثومة الرابعة هي الدراسة المنزلية وحل الواجبات وعمل الأنشطة في المنزل، حيثُ ترى فنلندا أنَّ للمتعلم الحق في الاستمتاع بوقته خارج وقت المدرسة، ولا يجب الاستحواذ عليه، وأن له الحق في قضاء أوقاتٍ مع أسرته بدلا من تمضيةِ الوقت في حل الواجبات والأنشطة مما يتسبِّب في عزل المتعلم اجتماعيًا وعاطفياً عن أجواء الأسرة، ولهذا عواقبه النفسية والعاطفية على المتعلم. لذلك فإنّه لا بد أن يمنحَ كل جانب من جوانب الحياة حقهُ من الاهتمام والرعاية والعناية حتى ينشأ المتعلم متوازناً في شخصيته.
الجرثومة الخامسة هي الدروس الخصوصية، إذ أنّ وجود الدروس الخصوصية لها عة تفسيرات مختلفة أو متحدة وهي إما لأن المتعلم لا ينال حقَّهُ في الفصل الدراسي بسبب كثرة المتعلمين( الاكتظاظ)، أو عمق المعلومات وتفاوت الذكاءات، أو لأنَّه لا يركِّزُ الانتباهَ في شرحِ المدرس اتكاءً على الدروس الخصوصية، أو لأنّ المدرس لا يبذل الجهدَ المتوقع لإيصال المعلومة حتى يترك مساحة للاستفادة الشخصية من الدروس الخصوصية..! لهذا تتضاعف أوقات الدراسة على المتعلم فيصبح كل يومه دروساً في دروس، يأتي من المدرسة مرهقا، ثم ينضمُّ لقافلةِ الدروس الخصوصية وهذا ما يسبب له الإرهاق الجسدي والذهني..! بيد أنَّ السبب يعود في نهايته إلى النظام التعليمي الشائع.
هناك أيضًا جرثومة سادسة وهي المواد المعقدة التي لا ينتفع منها المتعلم لأنّها لا تنفعه في واقعه أو في ميوله واتجاهاته، وهي ما يطلقُ عليها الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور “باسي سالبرغ” وصف “المعرفة المعزولة”، ويعني بالمعرفة المعزولة هي المعلومات التفصيلية التي لا يتداولها إلاَّ أهل التخصص الدقيق. ومن المؤسف أنّ هذه المواد مغرقةٌ بالتفاصيل المسهبة التي لا يحتاج لها المتعلم في دراسته فهي تضيع وقته، وقدراته في ما لا طائل ولا فائدة من ورائه..
هذه جراثيم تخلصت منها فنلندا فتصدَّرت العالم في قائمة أفضل الأنظمة التعليمية وحاز متعلموها المراكز المرموقة عالمياً، وتسابقت الدول لتحظى بالاستفادة من تجربة التعليم الفنلندي.. فهل سنتخلص نحن أيضاً من هذه الجراثيم بعد تجربة فنلندا الناجحة؟
مراسلة / سلمت : أرض بلادي