جريدة أرض بلادي-ليلى التجري-
بقلم الكاتب المغربي مصطفى لغتيري-
بحكم تعدد أجيال الزجالين في المغرب، عرفت القصيدة الزجلية تنوعا نسبيا في تجاربها الإبداعية، حتى أننا يمكن بكثير من التجاوز الحديث عن ثلاثة اتجاهات زجلية محددة المعالم:
– اتجاه أول يتزعمه الشاعر الزجال أحمد المسيح، و يتميز بوضع ممثلوه القصيدة العربية نصب أعينهم كنموذج، وهم يخطون قصائدهم العامية، فيشعر القارئ خلال قراءتهابنيض القصيدة العربية يخترقها، وكأنه أمام نص فصيح يرتدي جبة العامية، خاصة على مستوى توظيف المجاز.
– اتجاه ثان، يمثله أفضل تمثيل الشاعر ادريس المسناوي، ويركز أصحابه على الأفكار التأملية الفلسفية المجردة، فيشعر القارئ أو المستمع لنصوصهم، وكأنه أمام تصورات فلسفية تتزيا بأزياء الزجل.
– اتجاه ثالث، يقوده الشاعر الزجال ادريس بلعطار، ينهل أصحابه من تراث العيطة الكبير، الذي ينتشر في مناطق معينة من المغرب، وقد رددته على مدى الزمن حناجر المغنيين الشعبيين، وترسخ في الأذهان بشكله الغنائي البدوي المعروف.
ورغم هذه التوجهات وغيرها التي لم يسعفني اطلاعي المتواضع على التجربة الإبداعية الزجلية في المغرب الإلمام بها وحصرها ومن ثمة تصنيفها، أدعي أن قصائد الزجل بشتى أنواعها الشكلية الطافية على السطح، تحيل على منبع يكاد يكون واحدا ومتشابها، هذا المنبع يتمثل في الاغتراف ولو رمزيا من أشعار عبد الرحمان المجذوب وشخصيته بشكل مباشر أو غير مباشر، فأكثر ما قرأت من النصوص تحيلني في نهاية المطاف إلى تلك الصورة النمطية لذلك الشاعر المجذوب الذي خبر الدنيا والناس ولاقى في حياته كثيرا من المحن، فيبادر إلى تقديم خلاصة ما عاشه في قالب شعري ، لا يخرج عن كونه شكوى ذاتية من الزمان القاسي وحكما وأمثالا تدلنا على الطريق الأمثل لمواجهة صروف الحياة ومطباتها.
وحين أتيحت لي الفرصة للاطلاع على ديوان الشاعر الزجل ادريس فكري المعنون ب من غدا..حى أنا” المكلل بتقديم جميل وعميق للشاعرة والناقدة حسنة أولهاشمي، وجدت نفسي أمام مجذوب هذا العصر، فبدل أن يرسل شعره حرا طليقا يداعب أنسام الصباح وقيظ الظهيرة وغبش أول المساء، أطلق كلمات شعره، لتداعب وجداننا، تشتكي من هموم الحياة الذاتية حينا وتلامس الهم القومي أحيانا، وتداعب على استحياء انشغالات إنسانية أرحب أحيانا أخرى.
في قصيدته” يا بحر” يقول الشاعر، معربا عن توجسه من تقلبات الحياة المفاجئة:
بغيت وخايف يا بحر
من ضربة ف الظهر ولا في الصدر
بجوج ولاوا د الغدر
وفي قصيدة “بياض أو صافي..” يقول الشاعر ادريس فكري مصورا بحرف بديع حال الشاعر المجذوب المهموم بالحرف والكلمة وبالهموم الذاتية والقومية:
قلت أنا عكا
شافتها يدي في عين السما
طالعة مجروحة
من دمعة تمة
ف بحر الحشمة
مات ف الما
ويتجلى البعد الشعري المقتدي برمزية المجذوب في الديوان من خلال مقاطع عدة تتوزع على امتداد القصائد ومنها:
من غدا
ننوض حتى أنا
نمسح دموع ليام
نعزل
دمعي منك أ دمي
في هذه المقاطع تتألق روح الشاعر ذات الحساسية المفرطة لتتماهى مع روح الحرف، ليندمجا معا في ما يشبه الحلول الصوفي، يقول الشاعر:
روحي روحي
وهبي يا رياحي
حركي سواكن حروفي
حتى نولي نبان كذبة
ف سيرة نواحي
دمعة ميتة
ب الضحك على خدي
وهكذا يستمر الشاعر في نظم همومه الذاتية في علاقته بالهموم الوطنية والقومية دون أن ينسى ملامسة هموم الناس من حوله، يقول الشاعر:
ناس ميتة فرحانه
ناس عاشة ندمانه
عايشة ما عايشة
حدك تم
ادخل سوق راسك أ راسي
تشري كلشي
بالرخا
قلت ندخل له بحال الخوت
لقيت خونا فات فيه الفوت.
بهذا التنوع في المضامين والصيغ التعبيرية، يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن ديوان”من غدا.. حتى أنا..” للشاعر إدريس فكري تجربة إبداعية زجلية ممتعة، تستحق منا كثير: من الاهتمام.
