التمثّلات التشكيلية والفنّية في ديوان”أحلام في يقظة الشمس” للشاعرة أمينة لفقيري.

جريدة أرض بلادي-هيئة التحرير-

بقلم الشاعر والناقد عبد العزيز بحفيض-

حفل المنجز الشعري لدى الشاعرة أمينة لفقيري أيّما احتفاء بمعينات تشاكلية تنتمي إلى حقليِ التّشكيلي والفنّي، وهذا راجع، وبشكل جليّ إلى اهتمامها الكبير بمجال التشكيل، ممَّا جعلها تتماسّ بشكل لاواعٍ بين الصورة الشعرية والملمح التشكيلي، سواء عبر خلق صور تشكيلية متفرّدة، صوَّرتْها في حُلة شعرية شاعرية، حتى لا تكاد أنْ تفرّقَ بينهما، ومردُّ ذلك لاشتغالها الحِرفيّ والتّداولي، ووعيها التّجريبي، من أجل خلق تداخل وتمازج بين حقلين إبداعييْن، يلتقيان من حيث الرؤية والمنظور، البعد الدّلالي ومساحة البياضات…فلغة الشعر إيقاعية دلالية رؤيوية، ولغة التشكيل بصرية دلالية رؤيوية، وبين اللغتيْن مسافات للتأويل والقراءة، بأدوات معرفية، وعُدّة منهجية، تكاد تختلف من حيث التّناول، لكن تلتقي من حيث الهدف … ألا، وهو التّلقي: إشباع الذات وإرواء المتلقي بما غمض واستحال عن الفهم واحتجب عن الإدراك. وفي غمار هذا التَّجاذب الشعريّ/ التشكيلي، يتحوّل القلمُ الشعريّ/ المفردة الشعرية لدى الشاعرة إلى عالم الصّباغة والفرشاة، مستنجدة بآليات من ذاك العالم، وموظّفة أدواته بشكل انسيابي، حتَّى لا تكاد تنتبهُ إلى هذا التَّداخل الجميلِ :
– ( سأرسم على راحتيه…سريراً وردياً)ص5
– (نلوّن بقعَ ظلَّنا
في أقلّ من حلمٍ
ونوحّد الجسد)ص8
– (لمّا اجتاحتني الظلال
همتُ في العتمة
كَحكيمٍ لا يعرف شيئاً)ص38
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالشاعرة تمكّنت من توظيف معجم فنّي ينتمي لعالم الرّقص، كأنها بذلك تُرغّب في ترقيصِ مفرداتِها على نمطٍ إيقاعيٍّ نغميّ جماليٍّ:
( وأحشد طيور البجع
لتشهدَ على سلملي الفجر
وهما يؤديان رقصتهما الكوريغرافية)ص10
فتصبحُ الرّقصةُ متناسقةً، متناغمةّ على مستوى الجسدِ والفضاءِ والسياقِ الشّعريّ خاصّةً. وفي انعدامِ الجسدِ، ينتفي الرَّقص، لكن تربط الشاعرةُ علامةً مع الرّيح من أجلِ الرّقص، ليتحوّلَ اللامرئي مع الحيوان بالرّقص. ما سرّ هذا التحوّل الجميل في الرقص؟ هل تعب الجسد وملّ عملية الرّقص؟
( ليس لي جسدٌ
حتى أستجيبَ لِدعوةِ رقصٍ
مع الرّيح
لي بعد آخر
يرقص الباليه
مع بَجعةٍ سوداءَ) ص31
وتتحوّل معاناة الشاعرة بنوع من الاصطدام والاصطلاء بقيود عنيفة راقصة في عمق الذّات المكلومة:
(كنت أصطلي بجمر الأقدام العابرة
وهي ترقص على أتوني العميقة)ص50
وفي أوج الانتشاء وحبور النّفس، تتسامى الرّوح لعالم السماء، حيث تتمتّع برقصات على أشعّتها ابتهاجاً نشوةً، عسى تلفي الذات ذاتها/هويّتها، وينكشف عنها ثقل الحياة:
(تحملني ثمالتي للشمس
نرقص على خيوطها) ص39
كيف تصوّرت شاعرتنا الحُبَّ/العشقَ؟ هل ولجت هذه المغامرة بشحناتٍ عاطفية وأحاسيس جياشة، أم بتصوّر جديدٍ؟ بربطها المفردة/العاطفة بالوجود/ اللاوجود، الكينونة/اللاكينونة، الطمأنينة/الفوضى:
( يترصّدني.. وفي تيّته
أن نتجاذب أطراف الهذيان
كنتُ أعشق صمته الرّفيه
وكان يعشقني شريدةً
في أحلامه المخملية
كساعة “دالي”) ص28
لأنّ ” الحُبَّ أصبح قضية وجودية، تتصل بالظمإ الشديد إلى الحنان والرّأفة، والطمأنينة المفتقدة، وإلى الإحساس بمعنى الوجود”(1) وحتى حين ينتفي الحبُّ، ويسطع خنجر الخيانة ضارباً سمَّهُ في النفس/الذات الشاعرة المكتوية بهذا اللهيب/الفراق/الفقدان…تتجلّد شاعرتنا وتتسلّح بآلياتٍ وجدانية،عضوية،نفسية(الدّمع، الغضب، العطر..):
( لي وشلٌ حارقٌ
أعرفه على كلّ الطُّرقات
التي رسمت ظلّه
وأصبُّ غضبي ..قطرات نارٍ
كيْ أمحُوَ عطريَ من ذكراه)ص30
كنا أنّ الخيانةَ تسكن الذاتَ الإنسانيةَ، ليصبحَ الغادرُ/ الخائنُ جزءاً من ذات الشاعرة، ألا وهي الأنا الفردية، المشكّلة للشخصية. كيف للجزءِ الحميميّ، العاقل أنْ يغدرَ/يخونَ صاحبه؟ أهو انفصام في الشخصية، أم مساءلة الجزء الآخر/الواعي من الذّات الشّخصية؟
(كيف خُنْتني يا أَناي
وعشقت ظلّك!
وآثرتَ الغدرَ
في زمنِ العشقِ
ونسيت خلّك!
كيف أصرفُ انتباهي عنكَ
وأنت منّي…وأنا منكَ!
كيف تقديري أصلك
بغربمٍ… هو فقط ظلّك!)ص32
هذا التّعجب الصّارخ في هذه الأبيات، يعزّزه تثبيت الشاعرة لأربع علامات تعجب(!)، مما يدلّ على انبهارها وتفاجئها وانشداهها لهذا المآل في المتوقّع، والمصير غير المنتظر. ولم تكتفي الشاعرة بهذه الاشارات التشكيلية فقط، بل استحضرت شخصية تشكيلية اسبانية معروفة عالمياً، وهي “سلفادور دالي”، حيث رغبت في الحلول في زمن هذا الفنان بكلّ تماهٍ، وأن تتخلص من حواسّها المادية والمعنوية، عسى أنْ تتحرّرَ من ضغوطات ذاتها وغريبها:
(أو زُجَّ بي
داخل زمن “دالي”المهروق
لأشهقَ طيشيَ
وأزفرَ عقليَ
أخلع حواسِّيَ
أعلّقها على شاربِه المعقوف)ص16
لا يتأسّس العمل الشعري دون عمق رؤاه، وجزالة لفظه، وسعة خياله، انزياحات صوره..، والشاعر هنا، ارتأت توظيف رموز تاريخية وأسطورية وفنية، وهذا راجع لسعة الاطلاع الكبير، والارتهان الذّكيّ على رموز، قد تفي بالغرض دون اللجوء إلى المباشرية المائعة القاتلة أحياناً لنبض النص الشعري. فتيمة الانبعاث مستحضرة بشكل شاعري وعميق، تذكّرنا بأسطورة إيزيس وأوزيريس:
(برغم احتراقي
في غابة ذاتي
أبعث رماداً
من رفاتي)ص22
فالاشتغال على الانبعاث، تجعل النص نابضاً بالحيوية، لأن صاحبته تروم التجديد والتغيير، “باعتبار القصيدة التجريبية هي محاولات هدم أشكال وإنتاج أشكال أخرى، لكن عملية الهدم والإنتاج هذه، هي عملية انتقالية، انتقاليتها دائمة .كلُّ كتابة هي هدمٌ وإنتاجٌ”(2)وهذا سينعكس إيجاباً على روح النص الشعري، وهذه طبيعة الإنسان وطموحاته من أجل تشكيل رؤية عن الوجود والكون والكاتب والطبيعة…وقد اتجهت شاعرتنا نحو منحى عبثي، جسّده حضور “غودو”بطل مسرحية “في انتظار غودو”لصمويل بيكيت، رائد مسرح العبث، حيث أن “غودو” لن يأتيَ في هذه المسرحية ولن يظهر له أثر، إلا من خلال التلفظ باسمه فقط، وبهذا المعنى تكرّس مفهوم العبث واللانتظار ولا جدوى الحياة:
(فلا تكوني يا أناي غودو
ف غودو
لا يأتي أبداً) ص49
(سأرحل من هذا العبث
وأشرق من هناك
شمساً) ص42
(سأرحل من هذا العبث
كما يرحل الظّلّ
هادئاً) ص42
(والطبيعة كبرياءها
بما تبقّى من ألوان العبث)ص17
(ذات عبث
طرتُ مع الصدى
رجع الصّدى…وما رجعتُ)ص48
علماً أنّ فلسفة العبث التي رائدها أندري بروتون، جاءت في سياق الفراغ والدمار الذي خلفته الحرب العالمية، وضياع الإنسان في لا جدوى هذه الحياة..ولم تملّ الشاعرة من النّهل من عالم الأسطورة، لتُبلّغَ رسائلها المشفّرة، عبر لغة سلسة، انسيابية وعميقة الدّلالات، حيث تستمرُّ الحياةُ من جديدٍ، من خلال “مورفيوس”:
(نام مورفيوس بين يدي
في مرايا الشّطح)ص24
والعمل على الإصرار من خلال هيكوبا(ملكة طروادة):
( وكبرياء-هيكوبا- يمكنني
ابتلعتُ ظلّي المكسور
وجلستُ تحتهُ
أصفِّفُ ما تبقّى من جراح الأمس)ص50
كما ركّزت على تيمة التأمّل الروحاني من خلال شخصية “بوذا”:
(في معبدها البوذي
جلستُ أترصّدُ بريقاً يعرف مقاصدي)ص54
فإذا كان المكوّنُ التشكيلي حاضراً بقوّةٍ في الديوان، فلا ننسى الحضور الوازن للمكوّن الفنّي المتجلّي في أشكال تعبيرية فنية اخرى، كالنّحت:
(نحتُه عابرٌ ذات صقيع)ص11
او فن العرائس/مسرح الدّمى المتحرّكة:
(أراني كركوزاً أتأرجحُ
بخيوطٍ لامرئيةٍ)ص11
مجمل القول، تمكّنت الشاعرة “أمينة لفقيري” في ديوانها، أن تشرّح لغة كتابتها بتوابل معرفية فنية، ذات رؤى دلالية، تمكنت من خلالها أن تصل للمتلقي عبر توافق وتعاقد، لأنّ” القراءة الأكثر نجاحاً هي تلك التي يمكن فيها للذّاتيْن المبدعتيْنِ، أي المؤلِّف والقارئ أن يتوصّلا إلى الاتّفاق التّام”(3)و لا يمكن أنْ نجحدَ حقّ شاعرتنا التي فتحت لنا مساحات كبرى للقراءة والتأويل. فما يُكتب بِمُتعةٍ يُقرأُ بِمُتعةٍ.

**هوامش مرجعية:
1-الاغتراب في الشعر العربي الحديث:د.ابراهيم سولامي ص123
2-دراسات في نقد الشعر:إلياس خوري ص67
3-فعل القراءة: نظرية جمالية التجاوب في الأدب:wolfgang Iser ترجمة : حميد لحمداني

* ذ.عبد العزيز بحفيض-