متعة السفر مصطفى لغتيري

جريدة أرض بلادي- هيئة التحرير-
مصطفى لغتيري-

السفر متعة متجددة.. ما إن تتذوق لذته حتى تدمنه، ولا تكتفي منه أبدا، فحين تظن أنك نلت منه كفايتك يرتفع صوت داخلي يتردد صداه في كل مكان قائلا: ” هل من مزيد؟”. بالسفر تثري معرفتك بالناس والأمكنة، بل وتعمقها بعيدا عن الانطباع السطحي المخادع، الذي غالبا لا يصمد أمام الواقع. بفضل السفر ينجلي الوهم عن عينيك، وينتصب الواقع حيا صادقا وعنيدا، لا يقبل اللون الرمادي في الأحكام، إنه المحك الحقيقي الذي يعيد إلى نفسك وذهنك صفاءهما وطمأنيتهما ..


الطريق ذاكرة حية ومستفزة.. حين تخوض فيها تسترجع ذكريات بلا حصر.. وجوها ناطقة.. أمكنة ملتسبة.. كلمات وعبارات قيلت هنا وهناك.. ترافقك وكأن اصحابها نطقوها اللحظة، وما تزال طرية، تحاول أن تنفلت من رنين الصوت، لتبني معناها في الذهن على مهل او على عجل، حسب الظروف التي قيلت فيها..

في هذه الرحلة اخترت أن أقطع الطريق نحو وجهتي بسلك سبيل مختلف، قدرت أن يكون ممتعا وجميلا، وواعدا بالمفاجآت الجميلة، التي طالما كانت محفزي الأكبر على السفر.. ولم يخب ظني أبدا. نوع من الحدس الصادق يقودني دوما نحو الاكتشافات الجديدة، التي عولت عليها دائما لإغناء رصيدي من المعرفة والأحاسيس.. كانت المفاجأة الأولى أسرة مغربية قحة، اختارت أن تشيد فيلا صغيرة على مرمى بصر من البحر، فكانت تحفة المكان وبهجته، ومسرة للعين كما ارادها أصحابها، وتحقق لهم ذلك.. هناك في ذلك البيت الجميل الهادئ أحطت بعناية كبيرة، لن أكون صادقا إذا قلت أنني لم اتوقعها، فقد اعتدت على تقدير بعض الناس للأدباء واحترامهم، والأسرةالمغربية إذا احبتك وهبتك ما تستطيع وما لاتستطيع، هناك في ذلك البيت العامر كان للطفل الجميل “غالي” سطوة الحضور والحب والامتنان، فكان بحق نجما متلألئا تعلقت به الأبصار والقلوب.. بيد أن للوقت ديكتاتوريته، يفرض علينا منطقه، فنستجبب له بأريحية معهودة، ولو على مضض أحيانا.. تستأنف السيارة مهمتها الأزلية المتمثلة في ابتلاع المزيد من الاسفلت حد الثخمة، ولسان حالها بقول هل من مزيد، فيما ترتشف العينان التفاصيل، كل التفاصيل، التي تنتظم في نسق معين فيجود العقل حينئذ بتعابير تختزل المشهد، فترتسم البسمة على الشفتين، كهدية مشتهاة، تقطفها النفس بكثير من الامتنان.. خوليو إيكليسياس يرافقني في هذه الرحلة.. ذلك الاسباني الجميل الذي طالما ألهب العواطف وشنف الأسماع بكلماته وألحانه وموسيقاه الخالدة.. الأرض رحبة بما زخرت به من امتداد.. تزيد رحابتها كلما تقدمت في المسير، فتكبس الدهشة على أنفاسي، ويداعب القلب شعور جميل بالوطن الشاسع الكبير، الذي يوخي لك في قرارة نفسك بأنه يمكن أن يخلق نهضة حقيقية بسواعد ابنائه، ويحقق للجميع وفرة ورغدا في العيش لا مثيل لهما.. شواطئ ممتدة وأراض خصبة شاسعة، وأناس طيبون وشغيلون، هم مستعدون للقيام بأي عمل مهما كان من أجل كسب لقمة عيشهم..
المحيط بزرقته الاستثنائية يمارس معي لعبة من نوع خاص، يظهر ويختفي.. بغتة يتمدد كبساط أزرق لا متناه، كاشفا عن نفسه بلا تردد. يغري بأكثر من شيء، مختزلا احداثا وصورا بلا حصر، تنهال فجأة على الذاكرة.. كدت أقول ذاك الأطلسي الشاسع لوحده ذاكرة حية.. وأتساءل بين ويين نفسي: ترى متى سنستنطقها لتكشف عن أسرارها؟.. مقاه منتشرة هنا وهناك.. رائحة السمك المشوي تسيل اللعاب، وتغري بالتوقف المتكرر، لكنها بعد حين أضحت مألوفة وكأنها اكثر الأمور بداهة في هذا المكان.. صيادون بسحنات لوحتها أشعة الشمس، وأبدان نحيفة تضع قصبات الصيد على أكتافها، تشعر حين تمعن النظر إليها ان البحر قد أتعبها، وأنها اقتنعت أن الصيد سيبقى مرتبطا بالحظ مهما بلغت براعة الصياد.. الحظ هو بالضبط الذي لم يسعف بعض الناس، أولئك الذين تصادفهم في الطريق بأسمال متسخة، لا تتعب ذهنك من احل ان تعرف بأنهم مجانين الطريق.. اناس فقدوا القدرة على التمييز، فابتعدوا عن الناس وصاحبوا لطريق. اي علاقة بين الجنون والطريق؟.. سؤال طالما طرحته على نفسي، ولم أظفر له بجواب شاف.. لماذا نرى دائما اولئك المجانين يحادون الطريق ويمضون في سيرهم بلا توقف. هذه الظاهرة استرعت انتباهي بكثرة في منطقة بعينها، ولا أدري اهي نتيجة الإهمال أم لها اسباب أخرى لا اعرفها..
يتبع